الأحداث

الخطاب الإسلامي بين الأصول الجامعة والتنوع الاجتهادي

الخطاب الإسلامي بين الأصول الجامعة والتنوع الاجتهادي

وزارة الشئون الدينية والأوقاف

اللقاء التفاكري للجماعات الإسلامية في السودان

الخطاب الإسلامي بين الأصول الجامعة والتنوع الاجتهادي

تقديم الأمير: عبدالمحمود أبُّو

الأمين العام لهيئة شؤون الأنصار

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

      إن ديننا جاء خاتما للرسالات قبله، متضمنا لأصولها، ومتميزا عليها بالختام والعموم وصلاحية أحكامه لكل زمان ومكان، والاسلام جاء دينا وسطا موفقا بين الثنائيات التي شغلت الفكر الإنساني عبر تاريخه الطويل: الروح والجسد، العقل والنقل، الدنيا والآخرة، الظاهر والباطن…إلخ.

      لقد أنزل الله سبحانه وتعالى كتابا مقروءا، وخلق كونا منظورا يقوم على سنن وقوانين ونواميس؛ والعقل الإنساني مطالب باكتشافها وتسخيرها ليستفيد منها في مصالحه،  فالتعقل والتفكر والتدبر مطالب إسلامية وواجبات شرعية، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 164] والإسلام يسمح بالاجتهاد وتعدد الآراء، ففي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم اختلف الصحابة في حضرته فأقرهم على ذلك، ومع تعاقب الأزمان وتعدد البيئات وظهور المستجدات، انقسم المسلمون إلى فرق وجماعات ومذاهب، واختلفت تصوراتهم حول طبيعة هذه الاختلافات : فمنهم من تفهمها وتعامل معها على أساس الاختلاف النوعي ومنهم من اعتبرها اختلافا جوهريا يخرج أصحابه من الملة ومنهم من احتار فيها.

كثير من المسلمين ومعظم غير المسلمين يستغربون من تناقضات خطابات العاملين في مجال الدعوة الإسلامية والمتحمسين لها من العلماء والمفكرين وخطباء المساجد وغيرهم من النشطـاء في هذا المجـال , وهذا الاستغراب مرجعه التناقض بين المفاهيم والمواقف التي تصدر عن هؤلاء المعنيين مع أنها مدعومة بالنصوص والأدلة , بل أكثر من ذلك نجد أن هذا التناقض أدى إلى إضعاف الالتزام بالإسلام عند كثير من المسلمين من حيث العقيدة واتباع الأحكام وثبات المواقف مما نتج عنه زعزعة واضطراباً في الحالة الإسلامية بصفة عامة , فصار الدعاة عاجزين عن الإقناع لأنهم عندما يطرحون أي مبدأ أو فكرة يواجهون بالنقيض الذي يطرحه داعية آخر ! ومن الناحية الأخرى فإن غير المسلمين قللوا من احترامهم للمسلمين بسبب هذا السلوك الذي يبدر منهم، واقتنعوا أنهم على حق لأنهم ينظرون إلى المسلمين من خلال الممارسة والواقع فيقولون لو كان دين هؤلاء صحيحا لما كانوا على هذه الحال! والذين أنصفوا المسلمين فإن انصافهم يأتي من اطلاعهم على الإسلام من مصادره الأصيلة ومن تاريخه الناصع فأقنعتهم الحقائق والوقائع بحقيقة هذا الدين وقليل ما هم، إن التناقض في الخطاب الإسلامي بين العاملين في مجال الدعوة يرجع لعدة عوامل أهمها:

العامل الأول: غياب مرجعية دينية مجمع عليها لتكون لها الكلمة الأخيرة في حسم الخلاف، فلقد غابت هذه المرجعية بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يقول قائل إن المرجعية موجودة تتمثل في الكتاب والسنة، هذا صحيح من حيث مصدرية الأحكام، ولكننا مع ذلك نرى الخلاف قائما بالرغم من وجودهما لأن منهج التعامل معهما يختلف من عصر إلى عصر ومن شخص إلى آخر، فغياب المرجعية البشرية المجمع عليهـا عامل من عوامل التناقض المعـاش.

العامل الثاني :  المنهج التعليمي المتبع في كافة المؤسسات الدينية غيب حقيقة الدين الإسلامي عن كثير من المسلمين, وأهمل روح الاسلام بتركيزه على الفروع والشكليات : لقد اعتمد المنهج على التحفيظ والرواية مهملا الأسلوب النبوي القائم على التربية وغرس المبادئ والمفاهيم بصورة تمكن المتلقي من التفاعل معها وتطبيقها, كما افتقر إلى وسائل غرس نهج التفكير والمقارنة في أذهان المسلمين , ولذلك فإن الدين الخاتم لم يتم استيعابه كرسالة عالمية خالدة تخاطب كل بني البشر باختلاف ثقافاتهم وعاداتهم وعصورهم فصار نهج كثيرمن الدعاة يقدم الإسلام كأنه ديانة قومية محلية متقوقعة في بادية العرب في عصر الجاهلية .

العامل الثالث: تحكم النظم السياسية المستبدة على الساحة التاريخية الإسلامية الغالبة شلّ حركة الفكر الإسلامي وغيّب تلاقح الأفكار والآراء الذي يمثل أهم عوامل الإبداع والتطور لما يتيحه من تعدد الخيارات التي تمكن المتلقي من الاختيار بين البدائل، فالنظم المستبدة لا تعرف إلا رأياً واحداً هو رأي الحاكم بأمره ومن خالفه فمصيره واحد من اثنين: إما السجن وإما القبر!

العامل الرابع: اختلاف البيئات والأزمنة والأمكنة له أثر كبير على الفكر وبالتالي فإن الفهم للدين يتعارض من شخص لآخر لأنه ليس بالضرورة أن تكون وسائل الاستنباط وترتيب الأولويات محل اتفاق من الجميع في ظل وجود المؤثرات والخلفيات المتعارضة.

العامل الخامس: تعامل الآخر مع الإسلام والمسلمين خلق رد فعل غاضب لدى المسلمين فاختلفت أساليبهم في التعامل مع هذا الآخر ما بين الرفض والتواصل، فمنذ أن جاء الإسلام وجد صدوداً وكيداً من المشركين واليهود وبعض النصارى واستمر هذا النهج حتى عصرنا الحاضر مما جعل كثيراً من المسلمين يرفضون أي تسامح مع الآخر ويدعون لإخضاعه بالقوة أو استئصاله، بينما يتبع آخرون منهجاً يتمسك بالأصل ويدعو إلى معاملة كل تصرف بما يناسبه فإذا انتفت الأسباب رجعنا للأصل.

      هذه العوامل وغيرها أدت إلى بروز مدارس كثيرة داخل الملة الإسلامية يمكن اجمالها في ثلاثة مناهج تتفرع عنها فرق وطوائف ومذاهب تغطي الساحة الإسلامية بامتداداتها الأفقية والرأسية، تلك المناهج هي: منهج التقليد؛ ومنهج التبعية؛ ومنهج الوسطية. فالمنهج الأول يتبع أسلوباً لا يميز بين الثوابت والمتغيرات ويقدس التاريخ بكل مراحله, ويرفض التواصل مع الآخر ولديه أفكار معلبة يسعى لإسقاطها على الواقع دون التفات إلى العلل والمتغيرات الزمانية والمكانية والظروف البيئية , أما المنهج الثاني فنقيض المنهج الأول ينتمي إلى الإسلام اسماً ولكنه في الواقع مستلب أمام الآخر ومنبهر به فيسعى إلى تقليده في كل شيء ويدعو إلى التحرر من كل ما هو ماض في تاريخنا ، والمنهج الثالث يتبع اسلوباً وسطاً يلتزم بالثوابت ويجتهد في المتغيرات ولا يتحرج من الاقتباس من الآخرين ولكن وفق ضوابط ومعايير معينة تمنع الانكفاء وتعصم من الذوبان .

إنني في هذه المداخلة أقدم رؤية هيئة شؤون الأنصار للدعوة والإرشاد في هذا اللقاء التفاكري الجامع، بهدف تعزيز التنسيق والتعاون بين الجماعات وإعلاءً لمنهج الوسطية والعمل على تجفيف منابع الغلو والتطرف والتكفير ومحاصرة خطاب الكراهية؛ وتشتمل الورقة على أربعة محاور وخاتمة:

المحور الأول: الاختلاف طبيعته وضرورته وكيفية التعامل معه

المجتمع الإنساني خلقه الله قائما على التعدد والتنوع وتداخل المصالح وتشابكها، فكل إنسان فيه يحب أن يعامل معاملة طيبة، تحترم إنسانيته، وتكفل كرامته، وتحفظ خصوصيته.. هذه الحقوق تقابلها واجبات بنفس القدر تجاه الآخرين ، والإسلام ربط هذا الأمر بالإيمان قال صلى الله عليه وسلم : ” لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”[1]  والاعتراف بالآخر يكفل له حقه في الاختلاف ، وحقه في احترام معتقداته وشعائره وأفكاره ، ويحتفظ له بنسبة من الحقيقة ، فالحقيقة الكاملة لا يملكها إلا الله سبحانه وتعالى وقد وزعها على عباده بنسب متفاوتة ليتكاملوا حتى وهم يتصارعون ، فمن يظن أنه وحده يمتلك الحقيقة سيُسقط الآخر من ذهنه ويتمحور حول نفسه ، ويحصر الحق في ذاته ، فالمخالف له : هو كالعدم في مقابل الوجود ، وكالكفر في مقابل الإيمان ، وكالباطل في مقابل الحق .

إن الاعتراف بالآخر مرتبط بحقوق إنسانية في الإطار الإنساني العام ، وحقوق دينية لأهل الأديان ، وحق الاجتهاد للمسلم المخالف ، فالحكمة الإلهية اقتضت وجود الإنسان بكل خصائصه على الأرض مستخلفاً فيها ، وما دام عاقلاً حراً يتمتع بالإرادة والاختيار ، فمن الطبيعي أن يحدث التباين والاختلاف والتنوع في المعتقدات والمفاهيم والأفكار والعادات والأعراف والثقافات، وعندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وبدأ في تأسيس الدولة الجديدة التي كانت تضم ديانات متعددة وقوميات متنوعة ، وضع دستوراً لهذه الدولة نص على حقوق غير المسلمين وأصل للاعتراف بهم وبخصوصياتهم العقدية والثقافية والقانونية ، والتزم الدستور بحمايتها من أي عدوان : ((..وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين  لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم ، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته ، وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف ، وأن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف ، وأن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف ، وأن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف ، وأن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف ، إلا من ظلم وأثم ؛ فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته ، وأن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم ، وأن لبني الشطبية مثل ما ليهود بني عوف وأن البر دون الإثم وأن موالى ثعلبة كأنفسهم ، وأن بطانة يهود كأنفسهم ..”[2]. لقد أصل الإسلام لحقوق الآخر، وأحل التسامح محل التعصب، واعتبر الاختلاف آية من آيات الله الكونية التي توجب الاعتبار: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ﴾[الروم:22]  فاختلاف الألسنة يشمل اللغة والثقافة بكل أقسامها واختلاف الألوان لا يقف عند لون البشرة فاختلاف القسمات والهيكل والمقاس والبصمة وغيرها مما يتميز به كل شخص عن الآخر، وما أبدع اللفتة القرآنية: ﴿ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾[الذاريات:21] هذا التنوع إرادة إلهية، وضرورة إنسانية ، وواقع كوني ، فمن ميزاته أنه يقدم للمجتمع بدائل وخيارات ليأخذ بأفضلها، ومن ميزاته أنه بالمقارنة يبرز أوجه القصور في الأنواع المختلفة لتداركها ، ومن ميزاته أنه يحقق التكامل والتبادل ..

منذ أن خاطب الله الملائكة بأنه يريد أن يجعل في الأرض خليفة بدأ التحول في مسيرة الحياة، فقد كان الكون منسجما في توجهه بالرغم من وجود المخلوقات المتنوعة، فالسموات وما تحمل، والأرض وما فيها، وكل المخلوقات خاضعة لله. قال تعالى: “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابّ…) [الحج:18]. ولكن الله سبحانه وتعالى أراد للإنسان أن يكون مخلوقا مغايرا؛ يشترك مع المخلوقات الأخرى في بعض الصفات ويتميز عليها بالإرادة وحرية الاختيار. وهنا جاء الرد الإلهي على تساؤل الملائكة بقوله تعالى: “ …قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ...” [البقرة:30]. لقد جاء الإنسان إلى الوجود وهو يحمل خصائص التنوع والاختلاف كما اتضح، والسؤال الذي نسعى للإجابة عليه ما هي الحكمة وراء هذا التنوع والتعدد؟

إن الساحة البشرية تظللها بوضوح “عشرات الأديان، ومئات العرقيات، عدد هائل من الدويلات والعشائر والقبائل… مذاهب وأفكار، ومدارس وفرق.. أغنياء وفقراء، وأقوياء وضعفاء.. رأسماليون غربيون وشيوعيون شرقيون.. ومترفون شماليون، ومعدمون جنوبيون.. مختلفون.. مختلفون.. مختلفون ([3]). هل هذا التنوع لا هدف له؟ اللهم لا. قال تعالى: “أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ” [المؤمنون:115]، والفارق بين التنوع والنسق الواحد في الحياة البشرية؛ هو فرق بين الفاعلية والرتابة، فرق بين الجمود والتطور. “تخيل أن هناك لوحة بها ألف شجرة وليس فيها شيء آخر.. ولوحة أخرى بها ثلاث شجرات وجدول رقراق منساب، وسماء زرقاء، وقليل من السحب هنا وهناك، وشلال بديع من بعيد، وطائر أو طيور، وكوخ أو أكواخ، وسهل منبسط، وراءه جبل سامق، وفي قمته جليد، وتحت سفحه راع يرعى عشرة أغنام! أي اللوحتين أبدع؟ وفي أيهما ترغب؟” إن النفس السوية تختار اللوحة الثانية.. قد تكون الأشجار في اللوحة الأولى أجمل من شجرات اللوحة الثانية، لكن السر في جمال اللوحة الثانية كان في تنوع مظاهر الإبداع فيها! وكذلك البشر! إن العالم بحضاراته المختلفة، وتنوعاته الهائلة، وأعراقه، وأجناسه، وأفكاره ولغاته، ليمثل منظومة رائعة متكاملة، تعطي ثراء لانهاية له، وروعة لا حد لها.. ولو كان البشر كلهم على شاكلة واحدة لعانى الناس من السآمة والملل، والكآبة والإحباط ([4]) ما تقدم يؤكد أهمية التنوع وضرورته للحياة البشرية، ويمكن أن نستخلص الحكم الآتية:

الحكمة الأولى: تبادل المنافع: الإنسان مطالبه متعددة، وحاجاته متزايدة، وعطاؤه متجدد، واحتياجاته أكبر من قدراته، وطاقته أقل من تطلعاته، وقد ينتج أشياء أكبر من حاجاته، فالتنوع يتيح مجالا لتبادل المنافع بين بني الإنسان، وهي منافع متنوعة في ذاتها؛ فتبادل الخبرات فيه منفعة، واكتشاف الأخطاء منفعة، والوعي بالقصور منفعة، ومظاهر الحياة مليئة بالأنشطة الإنسانية القائمة على تبادل المنافع بين البشر في كافة المجالات…

الحكمة الثانية: التعارف قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا…” [الحجرات:13].

والتعارف يُكسب الإنسان خبرة بالحياة وتعقيداتها، خاصة في اختلافات طبائع البشر وتنوع رغباتهم وأهدافهم وعاداتهم وتقاليدهم وأعراقهم، فيتمكن من التعامل معهم كل حسب طبيعته وأسلوب حياته، وبذلك يدرك أن الحياة أوسع في معارفه واهتماماته، وهذا من شأنه أن يرسخ عنده ثقافة قبول المخالف والتسامح معه.

الحكمة الثالثة: التدافع والتفاعل قال تعالى:”… وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ…” [البقرة:251]، يقول الإمام الرازي “لا تتم مصلحة الإنسان الواحد إلا عند اجتماع جمع في موضع واحد، ولهذا قيل الإنسان مدني بالطبع، ثم إن الاجتماع يسبب المنازعة المفضية إلى المخاصمة أولا، والمقاتلة ثانيا، فلابد في الحكمة الإلهية من وضع شريعة بين الخلق..”([5])، ثم ذكر من هؤلاء الذين يدفع بهم الظلمة والطغاة إما أهل الحق، وإما غيرهم، كما ذكر أن التدافع بهذا المعنى لا يقع بين أهل الحق([6]). وقد بين الله تعالى حكما أخرى من هذا الدفع حيث يقول الله تعالى:”… وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً…” [الحج:40] حيث دل على أنه بهذا الدفع تُحْمَى الشرائع وأهل الحق، وأماكن العبادة ([7]) إن فلسفة الإسلام في الحضارات تقوم على أساس الدفع نحو الأحسن، وبالتالي فإن هذا يترتب عليه عملية التوارث، والتفاعل الحضاري، وليس صراع الحضارات.

وإذا نظرنا إلى النصوص الشرعية لوجدناها صريحة في الدلالة على ضرورة الأخذ بكل ما هو نافع وصالح.. ويؤكد الإسلام على ضرورة التفاعل الحضاري من خلال العلم والقراءة ومن خلال السير في الأرض والنظر فيها، وفي أهلها، وأممها للوصول إلى فقه سنن الله تعالى في هذا الكون، وفي الأمم والحضارات، من سنن التقدم والنصر والتمكين، وسنن الهزيمة والتخلف، فقال تعالى:” قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ” [آل عمران:137]، وقد ورد في الحديث موقوفا، أو مرفوعا أن: “الحكمة ضالة المؤمن فهو أحق بها أنى وجدها”([8])، فمن خلال العلم والقراءة والتاريخ يحدث التفاعل الحضاري حيث تستفيد الحضارة اللاحقة من الحضارة السابقة وتبني عليها([9]).

الحكمة الرابعة: معرفة قيمة الخير والشر: الإنسان العاقل لديه مقاييس يدرك من خلالها ما يضره وما ينفعه، وهنالك أشياء لا تظهر قيمتها إلا بمعرفة نقيضها مثل الظلمات والنور والحق والباطل والصحة والمرض.. الخ فمن حكم الله تعالى أن جعل الحياة متنوعة ليعرف الإنسان من خلالها مظاهر الخير فينميها ومظاهر الشر فيتخلص منها.

المحور الثاني: الأصول الجامعة للمسلمين

كان عصر الرسالة هو العصر الموحد للأمة الإسلامية واستمرت هذه الوحدة حتى الجزء الأول من خلافة سيدنا عثمان بن عفان ثم بدأت بوادر الاختلاف الذي ظهر في نهاية خلافة سيدنا على رضي الله عنه، ثم تأطر الخلاف ببروز الفرق المذاهب الإسلامية، والمذاهب الإسلامية المعتبرة كلها خرجت من منبع واحد واعتمدت على مصار شرعية معتمدة، والاختلاف تعود أسبابه إلى الفهم وإلى مناهج الاستنباط واختلاف البيئات وغير ذلك … والاختلاف مشروع إذا توفر أمران:

الأول: أن لكل من المختلفين دليلاً يصح الاحتجاج به، فما لم يكن له دليل يحتج به، سقط ولم يعتبر أصلاً.

الثاني: ألا يؤدي الأخذ بالمذهب المخالف إلى محال أو باطل ([10]).

وإذا ثبت أن المذاهب قد اعتمدت على الكتاب والسنة فهذا عامل من عوامل الوحدة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه) ([11]).

إن عوامل الوحدة بين المذاهب الإسلامية أكبر من عوامل الاختلاف هذه العوامل تتمثل في الاتفاق على المصدرين الأساسيين للتشريع الكتاب والسنة، وعلى مشروعية الاختلاف في الفروع.

ولا يخفى على المهتمين أن أكثر مسائل الفقه مختلف فيها بين المذاهب، بل حتى داخل المذهب الواحد وهذا من رحمة الله تعالى بهذه الأمة، ومن عوامل السعة والمرونة في شريعتها، ومن أسباب خصوبة فقهها وتنوعه.

أما مسائل الإجماع فهي محدودة وقليلة جداً، ولكنها مهمة جداً، لأنها تجسد وحدة الأمة العقدية والفكرية والشعورية والسلوكية، كما أنها تجسد أيضاً (ثوابت الأمة) التي لا يجوز لأحد اختراقها، ولا يقبل من أحد تجاوزها، لأنها هي التي تجعل الأمة متميزة بملامحها ومقوماتها وخصائصها ([12]).

ومن ركائز هذا الفهم: اعتبار المذاهب المعتبرة عند الأمة كلها مدارس فقهية وطرق لمعرفة أحكام الشريعة، وكلها على هدى وعلى خير في مجموعاتها وجملتها، لا في جميع جزيئاتها وتفصيلاتها وهي – من هذه الحيثية – متساوية في نسبتها إلى الشريعة الإسلامية وبعبارة أخرى إلى القرآن الكريم والسنة المطهرة ([13]).

وهذه المذاهب متقاربة، والاختلاف بينها اجتهادي محض، وعقائدهم واحدة ومنهجهم في الاجتهاد واحد، ومصادرهم التشريعية تكاد تكون واحدة لأن مصادر استنباط الأحكام الشرعية إما نصية في القرآن والسنة النبوية، وإما اجتهادية تعتمد على العقل في الأصل، مع التقيد بالإجماع ورعاية مقاصد الشريعة: الدين، النفس، والعقل، والنسب أو العرض والمال ([14]).

إن الجماعات الإسلامية في السودان، تعتمد في الغالب على المذاهب السنية، والأنصار مع أنهم لا يتقيدون بالمذاهب ولكنهم يتفقون معها في كل حكم يسنده الدليل، ويأخذون منها ما يتماشى مع منهجهم القائم على الكتاب والسنة، وعليه فإن عوامل الوحدة بين الجماعات الإسلامية في السودان كثيرة ويمكن أن نضيف أن مسوغات أو منطقات هذه الوحدة كثير أهمها ما يأتي:

أولا: عقيدة التوحيد.

ثانيا: الكتاب المعجز.

ثالثا: النبي الخاتم

رابعا: القبلة الواحدة.

خامسا: الأخوة الإيمانية.

سادسا: التاريخ المشترك.

سابعا: الآمال والآلام المشتركة.

والمبادئ والقيم التي تحقق الوحدة الإسلامية في ظل التنوع المذهبي تتمثل في الآتي:

المبدأ الأول: التعاون في المتفق عليه: وهو كثير؛ سواء كان في الأصول العقائدية، أو في المجالات التشريعية (والتي يصل بها بعض العلماء إلى أكثر من 90% من المساحة العامة) أو في المجالات الأخلاقية، حيث التوافق يكاد يكون كاملا، وكذلك في مجال المفاهيم والثقافة الإسلامية.

المبدأ الثاني: السماحة عند الاختلاف: فقد تقرر مشروعية الاجتهاد وأهميته، ومادامت أسباب اختلاف النتائج الاجتهادية قائمة وطبيعية، فمن الضروري احترام الاختلاف الاجتهادي، فلا يوجد نهي إسلامي عن الاختلاف وإنما ينصب النهي عن التنازع العملي المُذهب للقوة، والتفرق في الدين والتحزب الممزق. وعليه فيجب أن يوطن الفرد المسلم- عالما أو متعلماً، مجتهدا كان أو مقلداً- نفسه على تحمل حالة المخالفة في الرأي وعدم اللجوء إلى أساليب التهويل وأمثالها. وحينئذ يكون الخلاف أخويا وودياً (لا يفسد للود قضية) ([15]).

المحور الثالث: التنوع الاجتهادي المشروع

لقد أقر الإسلام الاجتهاد، وحث عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُثَمِّن اجتهاد صحابته، وقد تنوّع اجتهادهم في حياته، في مواضع شتى، فقد كان كثير من الصحابة فقهاء مجتهدون، واختلفوا في مواقف كثيرة أقرّهم عليها، وأشهر تلك المواقف اختلاف أبي بكر وعمر حول التعامل مع أسرى بدْر، واختلافهم في صُلح الحديبية، واختلافهم في الخروج من المدينة في غزوة أُحُد، واختلافهم في صلاة العصر عندما أُمِروا ألاَّ يُصَلوا العصر إلا في بني قُرَيظة، كما أنّ كل واحد منهم تميّز بصفة حتى اشتهر بها، ومع مرور الزمن صارت الصفات الفردية والاهتمامات الشخصية مدارس داخل الأمة: قال صلى الله عليه وسلم: “أَرْحَمُ هَذِه الأُمَّة بها أبو بكر، وأَقْوَاهُم في دين الله عمر، وأَفْرَضُهم زيد بن ثابت، وأَقْضَاهُم علي بن طالب، وأَصْدَقُهُم حَياءً عثمان بن عفان، وأَمِينُ هذه الأُمَّة أبو عبيدة بن الجراح، وأَقْرَؤُهم لكتاب الله أُبَيّ بن كعب، وأبو هريرة وِعاءٌ من العلم، وسلمان عالم لا يُدرك، ومعاذ بن جبل أعلم الناس بحلال الله وحرامه، وما أَظَلَّت الخَضْراء ولا أَقَلَّت الغَبْرَاءُ مِن ذي لَهْجَةٍ أَصْدَقُ من أبي ذر”([16]).

إن هذا الاحْتفاء بالتنوع داخل الجسم الإسلامي، هو الذي أدَّى إلى بروز المدارس الفقهية التي تطورت من مناهج فردية، حتى أصبحت مذاهب لها أنصارها، واشتُهِر عند الفقهاء تشدُّد ابن عمر، ووَسَطِيَّة ابن مسعود، ورُخَص ابن عباس. وطبّق المسلمون الاجتهاد في مراحل متعددة من تاريخهم، ذكر الشعبي عن شريح أنه قال: قال لي عمر: “اقض بما استبان لك من كتاب الله، فإن لم تعلم كل كتاب الله؛ فاقض بما استبان لك من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاقض بما استبان لك من أئمة المهتدين، فإن لم تعلم كل ما قضت به أئمة المهتدين؛ فاجتهد رأيك واستشر أهل العلم والصلاح)([17]) ففي كلام عمر مرونة شديدة حيث طلب من شريح أن يقضي بما استبان له، ومعلوم أن الاستبانة نِسْبِية، فما يستبين لعمرو لا يستبين لزيد؛ بل قد يستبين الأمر لنفس الشخص في وقت ولا يستبين له في وقت آخر، وأوضح نص على مشروعية الاجتهاد قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل عندما بعثه لليمن حيث قال له: (كيف تَقْضِي إذَا عرض عليك القضاء؟. قال: أقضي بكتاب الله. قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟. قال: بسنة رسول الله. قال فإن لم تجد في سنة رسول الله؟. قال: اجتهد رأيي ولا آلوا([18]). فضرب رسول الله صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله) ([19]).

وأيضا الحديث الذي أخرجه البخاري وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا حَكَمَ الحَاكِمَ فَاجْتَهَدَ ثم أصَابَ فله أَجْران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)([20]) كذلك يُفهم معنى الاجتهاد من قوله تعالى:” فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأبصار الحشر:2]، فمن الطبيعي أن تختلف اجتهادات الفقهاء وفقاً لظروف كل فقيه وقدرته على الاستنباط، والبيئة التي عاش فيها، خاصة وأن الإسلام أعطى المجتهد أجرين إن أصاب، وأجراً واحداً إن أخطأ ما دام ملتزماً بشروط الاجتهاد([21])، ولهذا الاختلاف فوائد، كما يقول الدكتور: طه بن جابر العلواني([22]) منها: (أنه يُتِيح التَّعَرُّف على جميع الاحتمالات التي يمكن أن يكون الدليل قد رَمَى إليها بوجه من وجوه الأدلة. وثانياً: إنه يُتيح رياضةً للأذهان وتَلاقحاً للآراء ويفتحُ مَجالات التفكير للوصول إلى سائر الافتراضات والخيارات، التي تستطيع العقول المختلفة الوصول إليها. وثالثاً: إنَّه يُتيح تَعَدُّد الحُلول أمام صاحب كلِّ واقعة لِيَهْتدِي إلى الحَلِّ المُناسب للوضع الذي هو فيه، بما يَتَنَاسَبُ مع يُسْر هذا الدين؛ الذي يتعامل معه الناس من واقع حياتهم) ([23]).

الخطاب الإسلامي بين الأصول الجامعة والتنوع الاجتهادي

فالاجتهاد في عصر الإسلام الأول، لم يكن خاصا بالقاضي معاذ بن جبل رضي الله عنه… ذلك أن تعدد القضاة الفقهاء – يومئذ – قد جعل الاجتهادات متعددة، على النحو الذي أثمر تعددية في الأحكام الجُزئية والفرعية المُسْتَنبطة من أصول التشريع ومبادئه وقواعده.. فغير معاذ كان هناك في دولة النبوة قُضاة آخرون، منهم علي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، وعمرو بن العاص، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، والعلاء بن الحضرمي، ومَعْقَل بن يسار، وعُقْبة بن عامر، وحُذيفة بن اليمان العبْسي، وعتّاب بن أُسيد، وأبو موسى الأشعري، ودِحية الكلبِي، وأُبَيّ بن كعْب.. الخ([24])، بل بلغ علماء الأصول في إحاطة تقنين التعددية في الاجتهادات، بالضمانات إلى الحد الذي جعلوا فيه اجتهاد المجتهد ملزماً له، ليس باعتباره الحكم الذي اختاره باجتهاده فقط، وإنما باعتباره “حكم الله في حقه” وانعقد على ذلك إجماعهم، قال الإمام شهاب الدين القرافي (684هـ/1285م) “وقد تَقَرّر في أصول الفقه: أن الأحكام الشرعية كلها معلومة، بسبب انعقاد الإجماع على أن كل مجتهد إذا غلب على ظنه حكمٌ فهو حكم الله تعالى في حقه، وحقِّ مَن قلّده”([25])، وانطلاقا من هذه القاعدة – التي أجمعت عليها الأمة- قرر الأُصولِيُّون تعدد الإفتاء بتعدد مذاهب المستفتين، وليس فقط بتعدد مذاهب المفتين!.. فعلى المفتي أن يفتي المُستفتي وِفْق مذهبه، لا وِفْق مذهب المفتي؛ لأن اجتهادات مذهب المُستفتي هي حكم الله في حقه، يجب أن يراعيها المفتي حين يفتيه.. ([26]).

يقول القَرافي “ومتى سُئِلنا عن الشافعية: هل يجب عليهم مَسْحُ الرَّأس بكماله؟ نقول: لا. ونُفتي الحَنَفيّة بأنه يجب عليهم الرُّبع – أي مسح رُبع الرّأس. ونُفتي في مذهبنا (مذهب مالك) بِخلاف ما ذهبتا لكل فرقة مذهب إمامها، يخالفنا بما يخالفنا ويخالف مذهبنا، لأنه مجمع عليه.. ونقول لمن له أَهْلِيَّة الاجتهاد: حُكم الله تعالى عليك أن تَجْتهد وتنظر في أدلّة الشريعة ومصادرها ومواردها، فأيُّ شيء غلب على ظنك فهو حكم الله تعالى في حقّك وحقِّ مَن قلّدك. فتارة تكون الفُتيا عامة، وتارة تكون خاصة، وتارة تكون بِضِدِّ ما عليه مذهب المفتي”([27])، وهنالك تمييز بين الفتاوى المُتَعَلِّقة بالأفراد؛ التي يُراعَي فيها مذهب المُسْتَفْتِي، وتلك التي تتوجَّه إلى الأمة، “ففي هذه الأخيرة يحسن أن تُصَب الاجتهادات الفردية للمجتهدين في اجتهاد جماعي – مؤسَّسي – لا يُصادر الاجتهاد الفردي، وإنما يُوظِّفه– بشورى المجتهدين – في مستوى أرفع من مستويات الاجتهاد الجماعي ([28]),

والدعوة للاجتهاد المؤسسي ليست جديدة، فهناك ما يفيد بأنها طُرحت مُنذ عصر النبوة فقد روى الإمام مالك بسنده إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر الذي ينزل بنا، لم ينزل فيه قرآن، ولم تمض فيه منك سنة؟ فقال: “اجمعوا العالِمِين من المُؤمِنين، فَاجْعَلُوهُ شُورى بَيْنَكُم، ولا تَقْضُوا فيه بِرَأْيٍ واحد”([29])، يقول الدكتور محمد عمارة” فالسنة تُقَعِّدُ للإفتاء الجماعي في الأحكام العامة في صيغة قانون القضاء؛ إذا لم يكن في الأمر كتاب ولا سنة.

ولقد وضَعَت الخلافةُ الرَّاشِدةُ سُنَّة هذا الإفتاء الجماعي في الأحكام العامة، وصياغة القانون الحاكم للمجتمع، وضَعَتْها في الممارسة والتطبيق.. (فعن ميمون بن مهران قال: كان أبوبكر الصديق، إذا ورد عليه الخصم نظرَ فِي كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى، وإن لم يجد في الكتاب وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر سنة قضى به، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين، وقال: أتاني كذا، وكذا، فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النَّفَر كلهم يَذكُر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضاء، فيقول أبوبكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ على نبينا، فإن أعياه أن يجد في سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به) ([30])) ([31]).

المحور الرابع: منهج التعامل بين الجماعات الإسلامية

علينا معشر المسلمين في السودان أن نتواثق كأهل القبلة على الآتي: –

  • أن كتابنا واحد معلوم ومحفوظ النص، ورسولنا واحد معلوم السيرة والهوية. هذه من نعم الله علينا. كتاب الله وسنة رسول الله بين أيدينا. علينا أن نؤمن تماما بأن ما نلتزم به هو القطعي ورودا والقطعي دلالة من الكتاب والسنة. أما الظني ورودا والظني دلالة وماليس فيه نص أصلا؛ فأمور اجتهادية غير ملزمة لنا.
  • التعامل مع الآخر المذهبي الإسلامي يجب أن يقوم على الإيمان المشترك بالقطعيات، والاعتراف المتبادل بالاجتهادات، على أساس أن التقليد في الاجتهاد غير ملزم، وأن القاعدة السنية: “من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد”
  • هنالك عوامل مستجدة اختلف المسلمون حول كيفية التعامل معها…إن عصرنا الحالي يمتاز بإلغاء المكان عن طريق المواصلات، وإلغاء الزمان عن طرق الاتصالات؛ مما يتيح لنا وسائل أفضل في التعامل مع هذه القضايا. الأسلوب الأمثل هو تحديد هيئة أو هيئات فنية ذات معرفة وتخصص في كل المجالات ذات دوراستشارى. واتخاذ هيئة أو هيئات تشريعية ذات تفويض شعبي، للتداول بشأن المستجدات واتخاذ قرار بشأنها.
  • ينبغي أن نحدد أساسا واضحا للتعامل مع الآخر الملي في أوطاننا: …علينا أن نقر عهد المواطنة وحق المواطنة كأساس للكيان الوطني، فالوطن لكل سكانه بموجب عهد المواطنة بما لا يتعارض مع الحقوق الدينية والثقافية للمجموعات الوطنية المختلفة مادامت لا تطالب بوضع ينتقص من حقوق المجموعات الأخرى.
  • النظام الدولي الحالي يقوم على أساس العهد الذي يقوم عليه نظام الأمم المتحدة. إنه نظام بالنسبة للمسلمين يعتمد على مرجعية إسلامية أساسية هي (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا) و(لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم …) الآية.
  • هنالك منجزات حققها الغرب لا تتعارض مع أصول مبادئنا الإسلامية، ولكن الفضل في تحقيقها وتكوين مؤسسات لاستدامتها يرجع للحضارة الغربية في المقام الأول؛ تلك المنجزات ينبغي أن نستصحبها دون أدنى حرج،  وأن نحدد مرابطها في مقاصد الشريعة الإسلامية :(الحرية الفكرية وحرية البحث العلمي – النظام السياسي الذي يقوم على رضا المحكومين ومساءلة الحكام ويحقق التداول السلمي للسلطة والخضوع العسكري للشرعية الدستورية – النظام الاقتصادي الذي يقوم على آلية السوق الحر لاسيما في مجال الاستثمار والإنتاج والتبادل التجاري – الالتزام بحقوق الإنسان على أساس أن الله كرمه وأوجب له حقوقا مقدسة.
  • لقد دار في مسألة المرأة جدل كبير: المرأة هي الوالدة والزوجة والأخت والبنت للرجل، والنساء في مفهوم الإسلام شقائق الرجال. والنصوص الإسلامية واضحة في مساواتها إنسانيا وإيمانيا. إن حقوق المرأة في الإسلام كانت طفرة تحريرية في ظروفها. أما الآن فإن حقوق المرأة العالمية بلغت مرحلة متطورة. التحدي الذي يواجهنا هو هل تستطيع المرأة أن تكون مسلمة وحديثة في آن؟ الجواب نعم.
  • الجهاد هو ذروة سنام الإسلام. والجهاد هو رهبانية أمة محمد صلى الله عليه وسلم والجهاد ماض إلى قيام الساعة. إن مادة جهد هي أساس الصلاح والفلاح والنجاح في كل مجالات الحياة، ولا يفلح الإنسان في أية حال إذا لم يبذل الجهد: لابد لنيل الشهد من إبر النحل. الجهاد في هدي الإسلام هو بذل الجهد كله للالتزام بأمر الله. إنه يبدأ دائما بإلزام النفس على الفضيلة، وهذا هو الجهاد الأكبر لأن فاقد الشيء لا يعطيه. ثم يتجاوز الإنسان نفسه إلى أسرته وإلى مجتمعه وعليه بذل الجهد كله وبكل الوسائل للالتزام بهدى الله. هذا الالتزام يصير التزاما قتاليا في حالة فتنة الناس عن دينهم، أي إكراههم على الخروج من دينهم. وفي حالة الدفاع عن النفس. أي دفاعا عن العقيدة ودفاعا عن الحياة (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير)

إن اتحاد الفهم بين كافة أهل القبلة حول هذه النقاط السبع واجب اسلامي.

خاتمة: توصيات

أقترح لتحويل الأفكار إلى برامج عملية أن نخرج من هذا الملتقى بالآتي:

  1. إنشاء آلية للتنسيق بين الجماعات الإسلامية.
  2. تنظيم ملتقى دوري لمناقشة القضايا التي تحتاج إلى موقف موحد.
  3. تنظيم أنشطة مشتركة بين الجماعات الإسلامية في السودان.
  4. الاتفاق على تكوين آلية لفض النزاعات التي يمكن أن تنشأ بين الجماعات.
  5. تنظيم منتدى للدراسات المقارنة للتعريف بالجماعات من خلال منهجها وأدبياتها.

[1] متفق عليه

[2] السيرة النبوية لابن هشام، الجزء الثاني ص (109)، تحقيق لجنة التحقيق بمؤسسة الهدى مكتبة المدينة المنورة القاهرة، الطبعة الأولى 1420هـ-1999م

([3]) أ. د. راغب السرجاني. المشترك الإنساني – نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، ص7 الطبعة الأولى 1432هـ- 2011م مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة – القاهرة.

([4]) أ.د. راغب السرجاني المشترك الإنساني ص 7-8، مرجع سابق.

([5]) الإمام الرازي. التفسير الكبير، ط. دار إحياء التراث العربي (6/190-191)

([6]) أ.د. علي محيي الدين القره داغي. نحن والآخر- دراسة فقهية تأصيلية، ص (179)

([7]) المرجع نفسه. 

([8]) رواه الترمذي، وابن ماجة، انظر: سنن ابن ماجة، كتاب الزهد، باب الحكمة، 4/1395.

([9]) نحن والآخر مرجع سابق ص174.

([10]) طه جابر العلواني، أدب الاختلاف في الإسلام، ص 104، مرجع سابق.

([11]) الموطأ، (1395)، وحسنه الألباني.

([12]) د. يوسف القرضاوي، كيف نتعامل مع التراث، ص 176، ط/2، 1425هـ-2004م، مطبعة المدني، المؤسسة السعودية بمصر، القاهرة.

([13]) المرجع السابق ص 202.

([14]) أ.د. وهبة الزحيلي، قضايا الفكر المعاصر، 2/481-482، ط/1، 1429هـ-2008م، دار الفكر دمشق.

([15]) المصدر نفسه.

([16]) أخرجه ابن عساكر في تاريخه 6/201 والعجلوني في كشف الخفاء 1/118 والعقيلي في الضعفاء 2/159. الخضراء السماء. المختار، ص139 المصدر: موسوعة أصول الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي من نبع السنة الشريفة وهدى الخلفاء الراشدين. إعداد خديجة النبراوي 2/1085.

([17]) ابن قيم الجوزية. إعلام الموقعين المجلد الأول ص 164، دار الحديث القاهرة.

([18]) آلو: أقصّر وأتوانى.

([19]) سنن أبي داود، رقم3119. كتاب الأقضية. ومسند الإمام أحمد بن حنبل: رقم21000 كتاب الأنصار.

([20]) أخرجه البخاري في صحيحه (7352) في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة مكتبة الإيمان القاهرة

([21]) انظر: عبدالمحمود أبو، الحوار في الإسلام حقائق ونتائج، ص (128) الطبعة الأولى2011م مطبعة المصابيح أم درمان.

([22]) طه جابر العلواني، ولد عام 1935م في العراق وهو رئيس المجلس الفقهي بأمريكا، منذ عام 1988م، ورئيس جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية بهرندن فرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، حصل على الدكتوراه في أصول الفقه من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر في القاهرة عام 1973م، كان استاذاً في أصول الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض في المملكة العربية السعودية منذ عام 1975-1985م، في عام 1981م شارك في تأسيس المعهد العالي للفكر الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة وعضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي في جده، هاجر إلى الولايات المتحدة في عام 1983م، يرأس طه جابر العلواني الآن جامعة قرطبة الإسلامية في الولايات المتحدة،  يسكن مع عائلته في القاهرة. الموسوعة الحرة، الإنترنت.

([23]) طه جابر العلواني: أدب الاختلاف في الإسلام ص 25، المعهد العالمي للفكر الإسلامي

([24]) المالكي، أبوعبدالله محمد بن فرج (أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم) ص33-35. تحقيق د: محمد ضياء الرحمن الأعظمي. طبعة القاهرة 1978م

([25]) القرافي الأمنية في إدراك النية ص515 تحقيق عبد الله إبراهيم صالح طبعة مالطا 1991م في ذيل كتاب (القرافي وآثره في الفقه الإسلامي). راجع الإسلام والتعددية الدكتور محمد عمارة الصفحات 28- 30.

([26]) الإسلام والتعددية ص31 المرجع السابق.

([27]) القرافي: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام ص219، 220، 123، 226. تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبوغدة طبعة حلب 1387هـ – 1967م.

([28]) د محمد عمارة، الإسلام والتعددية ص31 مرجع سابق،

([29]) ابن القيم: إعلام الموقعين 1/73، 74- والنقل عن جمال الدين عطية” النظرية العامة للشريعة الإسلامية، ص195. طبعة القاهرة 1407هـ – 1988م المصدر السابق.

([30]) سنن الدارمي 1/69 حديث رقم 161.

([31]) الإسلام والتعددية د: محمد عمارة ص32 مرجع سابق.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى