مقالات الدكتور عبدالمحمود أبو أبراهيم

الإمام الصادق المهدي والتجديد في الفكر الإسلامي

الإمام الصادق المهدي والتجديد في الفكر الإسلامي

الإمام الصادق المهدي والتجديد في الفكر الإسلامي

بقلم د: عبدالمحمود أبو

الأمين العام لهيئة شؤون الأنصار

رئيس فرع المنتدى العالمي للوسطية في السودان

      جاء الدين لهداية البشر وفق ما قرره الله سبحانه وتعالى في كتبه وكما بينه رسله عليهم الصلاة والسلام، وتعاليم الدين جاءت منظمة لعلاقة الإنسان بربه، وعلاقته ببنى جنسه، وعلاقته بالكون الذي يحتويه، والفكر الديني نتاج للعقل البشري في محاولاته المستمرة التوفيق بين تعاليم الدين والواقع الذي تطبق فيه، والأفكار هي التي تحدد صلاحية التطبيق من عدمها.

      لقد مر الفكر الإسلامي بمراحل متعددة؛ تطور فيها حينا وتراجع فيها أحيانا، حسب قدرات قادة الفكر في استيعاب كليات الدين ودرجة وعيهم بالواقع الذى يعيشون فيه، الإمام الراحل الصادق المهدي عليه من الله الرحمن والرضوان؛ قدر له أن يأتي في عصر انتشرت فيه النظريات والأفكار، وتداخلت فيه علاقات المنتمين إلى الأديان المختلفة،  وتطور فيه الوعي الإنساني بصورة غير مسبوقة؛ مما فرض على المنتمين للأديان تحديات جديدة إما أن تواكب أفكارهم فتتجدد وتبقى، وإما أن تتخلف فتتلاشى وتندثر, وبما أن الدين الإسلامي هو الدين الخاتم فلا بد أن يكون قادرا على التجاوب مع مستجدات الحياة.

 وإذا كانت النصوص متناهية والقضايا غير متناهية – كما يقول علماء الأصول – فإن لاجتهاد العلماء دورا في استنباط الأحكام من المصادر الشرعية بحيث لا تتعارض مع الكليات الشرعية، ولا تتناقض مع الواقع الضروري، وبناء على ذلك  فإن الإمام الصادق – باعتباره أحد علماء الأمة وقادة الفكر الإسلامي – قد اجتهد وبلور مدرسة فكرية إسلامية واضحة المعالم، محددة المنطلقات، متماسكة المنهج؛ بدأت منذ العام 1959 م بمقدمة لكتاب العبادات للإمام المهدي؛ حملت عناوين (الدين والإنسان – الإسلام والإنسان والحضارة الإنسانية – والإسلام والسودان – ودعوة الإمام المهدى ) واكتملت في أخريات حياته بكتاب (نحو مرجعية إسلامية متجددة).

 إن معالم هذه المدرسة منشورة في الكتب والمقالات والمحاضرات والخطب العديدة التي أصدرها الإمام.

في هذا المقال؛ أذكر بعض القضايا التي تشكل أهم نقاط التجديد الفكري عند الإمام الصادق المهدي.

أولا: المرجعية:

      لتحقيق الالتزام الديني والتجاوب مع العصر؛ دعا الإمام الصادق أن تكون المرجعية التي يستند إليها المسلم في فقه حياته الخاصة والعامة، وعلى مستوى الدولة، وفي علاقة مع الآخر المِلِّي والآخر الدولي قائمة على الآتي:

الالتزام بالقطعي ورودا ودلالة من الكتاب والسنة: فالقرآن يعتبر المصدر الأول للتشريع في الإسلام ونصوصه فيها المحكم وفيها المتشابه، وألفاظه بعضها يحمل معنى واحدا، وبعضها تتعدد معاني، ولذلك وصفه سيدنا على بن أبى طالب رضي الله عنه: بأنه حمال أوجه، فليست كل أحكام القرآن على درجة واحدة قال تعالى (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) [سورة آل عمران: الآية 7]. والسنة النبوية الصحيحة تنقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية: متواترة، ومشهورة، وآحاد، كما قال الأحناف. وأحكام السنة على أربعة أنواع: وحي وفتيا وقضاء وسياسة شرعية؛ كما بين ذلك الإمام القرافي، وعليه فالإمام الصادق بين أن الملزم من أحكام الإسلام هو ما كان قطعي الورود وقطعي الدلالة، وأما النصوص الظنية الورود والدلالة فأحكامها ليست قطعية، ولذلك يجوز فيها الاجتهاد.

التمييز بين الثابت والمتغير: الأحكام الإسلامية ليست على درجة واحدة. فهنالك أحكام ثابتة لا تتغير بتغيُّر الزمان ولا المكان، ولا العادات ولا الأعراف، وهنالك أحكام قائمة على العلل تدور معها حيث دارت، وإعطاء الأحكام الإسلامية صفة واحدة هو الذي أوقع المسلمين في كثير من الأخطاء. كرر الإمام الصادق دعوته إلى التمييز بين الثابت والمتغير في أحكام الإسلام، ويعتبر أن الثابت هو ما يتعلق بأحكام العقيدة والعبادات والأخلاق، وما عدا ذلك يدخل في دائرة الأحكام المتغيرة، ترعى فيه المصلحة والمقاصد والمآلات.

مراعاة عدم التناقض بين الوحي والعقل: فقد جعل الإسلام العقل شرطا في التكليف، فالإنسان غير مكلف إذا كان فاقدا للعقل؛ بسبب صغر السن، أو الجنون، أو بسبب أي آفة أثرت على عقله فعطلت وظيفته، والأحكام الشرعية في الغالب معقولة المعنى، ومنهج الإمام الصادق منحاز للتوفيق بين العقل والنقل، ولكن يحدد للعقل مجاله، فالعقل يعتبر مرجعا أولا في مجال اختصاصه، ويقع الخطأ عندما نحكم العقل في المسائل الغيبية ونحكم الغيب في المسائل العقلية.

الاعتراف بمصادر المعرفة الأربعة: فالمعرفة مصادرها متعددة؛ هنالك معرفة تكتسب عن طريق الوحي، وأخرى تكتسب عن طريق الإلهام، وثالثة تكتسب عن طريق العقل، ورابعة تكتسب عن طريق التجربة. والمطلوب هو استصحاب هذه المصادر كلها في الاجتهاد وحصر كل مصدر في مجاله.

ربط النصوص بالمقاصد: إن التشريع الإسلامي يراعي المقاصد عند تطبيق النصوص، فالدين نزل لتحقيق أهداف معينة يجب مراعاتها عند التقنين والتطبيق، بحيث لا تهدم النتيجة النهائية للتطبيق مقصدا من مقاصد الشريعة؛ لقد تراجع فقه المقاصد عند كثير من الدعاة مما أدى إلى تشويه صورة الإسلام؛ ومما يجب لفت النظر إليه هو أن فقه المقاصد كان حاضرا في استنباطات رواد الفقه الإسلامي وأصل له الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات، ولكن عوامل الجمود والتقليد والقول بقفل باب الاجتهاد أحدثت اختلالا في مسيرة الدعوة الإسلامية.  

استصحاب العطاء الإنساني: إن الكون كتاب مفتوح استودع الله فيه سننه وقوانينه التي تتجلى في مظاهر الطبيعة والأحياء والفلك، وفى علاقات المجتمع، وهي متاحة للجميع بغض النظر عن عقائدهم. قال تعالى (كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) [سورة الإسراء: الآية 20]. والتجارب الإنسانية أثمرت فوائد كثيرة ملموسة يحتاجها الإنسان حيثما وجد، هذا العطاء الإنساني يدعو الإمام لاستصحابه والاستفادة منه على أساس (الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها أخذها)

ثانيا: الاجتهاد في غير القطعيات:

      إن صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان تتوقف على اجتهاد المسلمين لاستنباط أحكام ومفاهيم تلائم كل العصور والبيئات، وتستجيب للمستجدات، والاجتهاد وسيلة الإسلام لتحقيق هذه المواكبة، لقد أدى التقليد لتعطيل مسيرة الإسلام ووصم مجتمع المسلمين بالجمود التخلف والتراجع، لقد دعا الإمام الصادق إلى اجتهاد جديد لمواجهة تحديات العصر. وموجبات الاجتهاد كثيرة أهمها في نظره: سبع قضايا تحتاج إلى أحكام جديدة تستنبط من قطعيات الإسلام، لأن ما قرره جمهور الفقهاء في هذا المجال لا يلائم العصر الحديث وتلك القضايا هي:

الأحكام الخاصة بغير المسلمين.

الأحكام الخاصة بالمرأة.

أحكام الرق.

ولاية الأمر (نظام الحكم – شرعيته – مبادئه – طبيعته).

مسألة البغي (طاعة ولى الأمر).

الردة.

تطبيق الأحكام على رعايا الدول الأخرى.

وحجته في ذلك: أن النصوص متناهية والأحداث متجددة، وأن الإسلام جاء لكل الناس في كل العصور وليس وقفا على عصر معين، وأن صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان؛ مرهونة باجتهاد المسلمين، وأن الحساب الإلهي قائم على العدالة، والعدالة تقتضي أن نحاسب على ما نقوم به من عمل، وليس على عطاء السابقين واجتهادهم، والنصوص الإسلامية تؤكد وجوب الاجتهاد عندما لا يسعفنا ظاهر النص. فعندما بعث رسول الله معاذا إلى اليمن قال له (كيف تقضى إذا عرض عليك قضاء؟ قال بكتاب الله. قال فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال بسنة رسول الله. قال فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال أجتهد رأيي ولا آلو. فوضع رسول الله يده على صدر معاذ وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله).

ثالثا: التعامل مع الآخر:

      المجتمع الإنساني قائم على التعددية الدينية، والثقافية، والعرقية، وهي مظاهر ضرورية في حياة الإنسان قال تعالى (وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ). هذا التنوع حاول كثيرمن الناس إلغاءه ولكنهم فشلوا؛ لأنه جزء من قدر الله.

      لقد دعا الإمام الصادق المهدي إلى الاعتراف بالتعددية في كل مظاهرها الكونية. وأن محاولة إلغاء الآخر جلبت للإنسانية حروبا مدمرة في الماضي وفى لازلت تعيش آثارها يقول الإمام الصادق (الإيمان الديني والانتماء الثقافي ظاهرتان صحبتا الإنسانية منذ بداية وجودها، وحيثما ظهرت أيديولوجيات ربطت التقدم الإنساني بالتخلي عن الموروثات الدينية والثقافية؛ تراجعت تلك الأيديولوجيات وبقي الإنسان متدينا ومتمسكا بهوية حضارية وثقافية.  ولكن إزاء تعدد الأديان واختلافها، وتنوع الحضارات والثقافات وصدامها، وترابط مصالح كوكب الأرض عن طريق تقدم العلم والتكنلوجيا: ماذا يجب عمله للتوفيق بين هذا الترابط الموحد بين أطراف الدنيا وذلك التنوع المفرق للجماعات البشرية؟

يقول: هنالك ثلاثة خيارات:

الخيار الأول: أن يهيمن على البشرية دين واحد وحضارة واحدة.

الخيار الثاني: أن يطرد الدين من الحياة ويحكم على الموروث الثقافي بالزوال لتحل محلهما قيم عالمية وثقافة عالمية.

الخيار الثالث: الاعتراف بالتعددية الدينية والتنوع الثقافي كجزء لا يتجزأ من الحالة الإنسانية على أن تقبل الأديان التسامح والتعايش فيما بينها، وأن تقبل الحضارات والثقافات الإنسانية التعايش والحوار والإثراء المتبادل).

      فالإمام الصادق من دعاة الاعتراف بالآخر والتعامل معه بالصورة التي نحب أن يعاملنا به ولذلك فهو منحاز للخيار الثالث، والهدي الرباني وجه بحسن المعاملة قال تعالى (لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ) [سورة الممتحنة: الآية 8].

رابعا: المرأة:

      النظرة التقليدية إلى المرأة تحط من قدرها لمجرد نوعها، وهى نظرة تسربت للمجتمع الإسلامي من مفاهيم الجاهلية التي تنتقص من حقوق المرأة قال تعالى (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَداًّ وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ القَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ  أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [سورة النحل: الآيتان 58-59] وبكل أسف فإن الفكر التقليدي الإسلامي ذهب مذهبا يحط من قدر المرأة،  وهنالك آراء تنصف المرأة وتعترف بحقوقها , فالإمام الصادق أولى اهتماما كبيرا لقضايا المرأة خاصة وأنها قد نالت حقوقا كبيرة في هذا العصر فإن لم تجد حقوقا مماثلة في دينها، فستجد نفسها متنازعة بين دينها وعصرها. وقد درس الإمام الآراء المتعلقة بالمرأة قديما وحديثا وتوصل إلى النتيجة الآتية: –

أن الإسلام يكفل حقوق المرأة السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ والاستثناءات المشار إليها في الميراث والشهادة وغيرها، معللة ودائرة مع عللها، وكل محاولة للاستناد إلى الدين للتقليل من مكانة المرأة أو انتقاص حقوقها، يضر بالدين؛ لأنه يحيد به عن العدل. والعدل من أهم مقاصد الدين، ويضر بأمة المسلمين؛ لأنه يعرض النساء وهن نصف الأمة – على الأقل- لفتنة الخروج عن الدين بحثا عن الكرامة المسلوبة، وعن الحقوق المسلوبة.

استعرض الإمام الصادق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من منظور إسلامي، ووجد أن الحقوق المثبتة فيه عامة وللمرأة خاصة تتفق مع مبادئ وأحكام الشريعة.

خامسا: الفن:

      هنالك موقف تقليدي يعادى الفن ويحرمه، وقد فرض ثقافته على المجتمع الإسلامي، حتى صار عامة المسلمين وكثير من فقهائهم يعتبرون تحريم الفن أمرا معلوما من الدين بالضرورة؛ غير أن الإمام الصادق المهدى بعد استعراضه لكل الآراء ووقوفه على قطعيات الإسلام توصل للحقائق الآتية:

الإسلام دين عمارة للدنيا والآخرة وهو دين فطرة يقرها وينظم ممارستها.

الفن من فطرة الإنسان وله موقعه في حضارة الإسلام ونظامه. وهو من ضمن حاجات الإنسان الأساسية العشرة الواجب إشباعها، والفن يقوم بوظائف عديدة منها الرقي الذوقى، وفتح مدارك الترويح للاتصال بالقيم العليا وتطوير الصناعات – مدنية وعسكرية – وغير ذلك.

لقد وظف الفن في مجالات دينية شركية، وفى مجالات الملذات الهابطة، هذا النوع من الفن محرم؛ لأنه ترويج للانحراف، لا لأنه فن.

لأسباب تاريخية صار العدد الأكبر من المسلمين، كما يظهر في خطب الجمعة، والصفحات الدينية في الصحف، يرون وجود تناقض بين الدين والفن، ولكن الحقيقة التي تؤكدها التجربة الإنسانية هي أن الدين والفن كلاهما يدفع الإنسان بقوة الإيمان وبروعة الفن إلى تجاوز قدراته. لا أحد يشك في أن الإيمان كفيل بمضاعفة قدرات صاحبه الطبيعية، أما الفن فقد صور آثاره ابن الفارض تصويرا جميلا بقوله:

                فطيف خيال الظل يهدى إليك       في كرى اللهو ما عنه الستائر شقت

سادسا: الجهاد:

      لقد فهم بعض المسلمين الجهاد فهما ضيقا فحصروه في القتال، واعتبروه وسيلة لإجبار غير المسلمين للدخول في الإسلام! مستندين في ذلك على آية السيف الواردة في سورة التوبة؛ وصور هذا الموقف الأستاذ سيد قطب فقال:(إن في كتاب الله سورة هي سورة التوبة تضمنت أحكاما نهائية بين الأمة الإسلامية وسائر الأمم في الأرض …).

      الإمام الصادق أولى هذا الموضوع اهتماما كبيرا؛ لأن مستقبل الإسلام سيكون مظلما إذا ترك للمتطرفين الذين اختطفوا الشعار الإسلامي أن يعرفوا الجهاد وفق نظرتهم الضيقة؛ لقد أحصى الإمام كل الذين قتلوا في غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، والسرايا التي ابتعتها في حياته فوجدهم ((1018)) شخصا (259) شهيدا من المسلمين و(759) قتيلا من غير المسلمين! كما أثبت الواقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم حقق أهم ثلاثة إنجازات للدعوة دون قتال هي:

تأسيس الدولة في المدينة عام الهجرة دون قتال.

استمالة غالبية الجزيرة العربية للدعوة في عامي صلح الحديبية.

فتح مكة دون قتال.

وعليه فقد توصل الإمام الصادق لتعريف للجهاد أشمل من التعريف الضيق الذي يحصره في القتال فقال: “الجهاد هوبذل الوسع كله لإعلاء كلمة الله في نفس الإنسان وفي كل دروب الحياة، فالإنسان يغالب الشر في نفسه مجاهدا، ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة مجاهدا، ويغالب الجهل والفقر والمرض مجاهدا، ويقاتل لكي لا يفتن في دينه مجاهدا، ويقاتل دفاعا عن نفسه جهادا.. الجهاد بهذا الفهم الواسع ليس حصة في الحياة؛ إنه يصاحب كل حياة المسلم فهو رهبانية الأمة”.

سابعا: المهدية:

      العقيدة المهدية تثبتها المدارس السنية والشيعية، ولكنها تختلف اختلافا كبيرا في تصورها للمهدية وطبيعتها وشخصية صاحبها وتوقيتها، والمهدية في السودان هي الأب الشرعي للدولة السودانية الحديثة؛ فقد حررته وشهرته وحددت حدوده وأسست لنظام إسلامي فيه يراعى خصوصيته. والأنصار في السودان يشكلون شريحة اجتماعية كبيرة لها تأثيرها الكبير على مجريات الأحداث في السودان، لقد اهتم الإمام الصادق بأمر المهدية واجتهد لتوضيح طبيعتها في السودان وذلك على النحو التالي: –

تمييزها عن المدارس الأخرى: فالمهدية في السودان مهدية سنية وظيفية، غير مربوطة بتوقيت معين وغير مربوطة بآخر الزمان.

تمييز الثابت والمتغير فيها: فالمهدية فيها مبادئ ثابتة وفيها مواقف وأحكام فرضتها ظروف العصر الذي ظهرت فيه. فالثابت فيها: أنها دعوة مستمرة لإحياء الكتاب والسنة المقبورين حتى يستقيما، وأنها تقوم على عقيدة سنية واضحة خالية من التعقيد والمفاهيم الباطنية الغامضة، وأنها تربى المؤمنين بها على منهج ديني صارم يأخذ بالأحوط في أحكام العبادات دون افراط ولا تفريط، ويهتمون في نفس الوقت بالوطن وسيادته ومصالحه وبالمواطن وحرياته وكرامته.

تحديد مرتكزاتها: فالمهدية دعوة تأصيل وتجديد وبعث للإسلام؛ وهي تقوم على مرتكزات محددة هي:

التوحيد الخالص لله سبحانه وتعالى توحيد خال من الشوائب والشبهات والتعقيدات؛ على وفق ماورد في سورة الإخلاص.

الالتزام بالكتاب والسنة أصلا للحياة الخاصة والعامة.

الاجتهاد المستمر لتأكيد صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان.

الجهاد بمفهومه الواسع جزء من التربية الأنصارية.

الجذور والأغوار الروحية لجميع الأنشطة الإنسانية.

السعي لتوحيد أهل القبلة.

بلورة منهج يعطيها القدرة على التجدد والمواكبة: فكل حركات الإصلاح عرضة للتلاشي إذا حصرت نفسها في الماضي، وإخراجا للمهدية من القوالب المعلبة؛ فإن الإمام الصادق المهدى استطاع أن يبلورها في منهج جعلها قادرة على التجديد المستمر وهذا المنهج مستنبط من دفاتر المهدية؛ فمقولة الإمام المهدى: (لكل وقت ومقام حال ولكل زمان وأوان رجال) تعتبر القاعدة الذهبية في فقه الحركة.

تحديد قواسم مشتركة تسهل التواصل بينها وبين الآخرين: فالمدارس الإسلامية باختلاف مشاربها لديها مفاهيم تعتبرها مبادئ ومحاور تلتف حولها: فأهل السنة يتفقون على الكتاب والسنة، والإمامة عند الشيعة قضية محورية، والسلفية تقول بضرورة تصحيح العقيدة، والصوفية أولت اهتماما كبيرا للصفاء النفسي والتزكية والاهتمام بالجذور والأغوار الروحية، وحركة جمال الدين الأفغاني جعلت وحدة الأمة والإصلاح الاجتماعي أساس دعوتها؛ وحركة الشيخ عثمان دانفوديو في غرب أفريقيا، كان الجهاد لطرد المستعمرين هو أساس دعوتها. لقد بلور الإمام الصادق مدرسة للمهدية من داخل تعاليمها أوضحت أن المفاهيم المركزية الواردة في أدبيات المدارس الإسلامية موجودة بصورة أساسية في تعاليم المهدية؛ مما سهل للأنصار مهمة التواصل مع كل المدارس الإسلامية سنية وشيعية دون حرج.

ثامنا: إسهاماته الفكرية مدرسة قائمة بذاتها:

إن اجتهادات الرجل لم تأت نتيجة ظروف عابرة؛ بل تشكل جزءا أساسيا في حياته، وهَمًّا ظل يلازمه منذ شبابه الباكر،  وقد استطاعت هذه المدرسة عبر الجهاد والاجتهاد والمثابرة، أن تنضج وتؤتى أكلها،  واصبحت الأفكار التي كانت غريبة كغربة المسيح بين اليهود تجد طريقها للاهتمام في العالم الإسلامي وباستعراض مسيرة الرجل نجده مفكرا عميق التفكير ومجددا من الطراز الأول؛ فلا تجد في كتاباته حشو  الألفاظ ولا في مواقفه تناقضا بين القول والفعل، ولا في أفكاره تقليدا، وأنا شخصيا بالرغم من أنني درست في مؤسسات تعليم ديني؛ من الخلوة وحتى الجامعة وما بعدها؛ إلا أنني لم أجد في مؤسسات التعليم التقليدية ما وجدته عند الرجل،  من فهم  للإسلام وتعاليمه ومبادئه؛ واجتهادات الرجل الفكرية تجعل المسلم يعيش حياته الدينية وحياته الفطرية،  ويتجاوب مع عصره في نفس الوقت دون حرج أو تناقض، وأخلص إلى القول بأن الإمام الصادق المهدى صاحب مدرسة , في التجديد الديني معتدلة توفق بين الأصل والعصر وتؤسس لوفاء له مستقبل ولمستقبل له وفاء، وقد دعا لعقد مؤتمر دولي يشارك فيه علماء من كل المدارس الفكرية والمذاهب الإسلامية  ومن كل التخصصات للاتفاق على مرجعية متجددة متحررة من الانكفاء والتبعية؛ ولكن الأجل لم يسعفه لتحقيق هذه الرغبة، وأتمنى أن يتبنى المنتدى العالمي للوسطية هذه الفكرة ويتمكن من عقد هذا المؤتمر المهم الذي سيساهم في معالجة قضية مركزية من قضايا أمة الإسلام.

رحم الله الإمام الصادق وألحقه بمقام من أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.  

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى