عام

النظام القضائي في السودان تطوره وخصائصه

النظام القضائي في السودان تطوره وخصائصه

أكاديمية الشريعة بالجامعة الإسلامية العالمية

 بالتعاون مع هيئة التعليم العالي

إسلام أباد ــ باكستان

المؤتمر الدولي: نظام القضاء في الدول الإسلامية ــ النظرية والتطبيق

بحث بعنوان

النظام القضائي في السودان تطوره وخصائصه

إعداد الأستاذ: عبد المحمود أبو إبراهيم

المدير العام لمركز البحوث والدراسات الإسلامية

هيئة شؤون الأنصار للدعوة والإرشاد ــ السودان

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة:

العدل أساس الملك؛ هكذا نطق الحكماء واستقر العرف البشري على أهمية العدل في حياة الناس، وهو عرف أكدته الرسالات السماوية؛ حيث اتفقت على أهمية العدل بين الناس، وقد تعارفت المجتمعات البشرية عبر مسيرتها الطويلة على نظم تناط بها كفالة العدل وصيانة الحقوق، ونظام القضاء من أهم النظم المكونة للدولة؛ لأنه مُناط به تنفيذ التشريع، والفصل في المنازعات، وحماية مصالح الناس من التعدي عليها؛ تحقيقاً للعدل والإنصاف.

إنّ حديثنا عن تاريخ القضاء في السودان؛ يتناول القضاء في القرن التاسع الهجري وما بعده إلى عصرنا الحاضر؛ فهو عصر بروز الممالك والسلطنات الإسلامية في السودان، وأيضا فإنّ المراجع المتوفرة لدينا تتحدث عن فترة ظهور العنصر العربي الإسلامي في عهد مملكة الفور في غربي السودان في القرن التاسع الهجري؛ ومملكة الفونج في وسط السودان في القرن العاشر الهجري؛ فقد كان لرجال الإدارة والسياسة في ذلك العصر؛ الفصل في الأمور السياسية، والعمل على حفظ النظام العام، وصيانة الملك، وجباية الأموال؛ أما النزاعات المدنية، والخصومات المتعلقة بالأحوال الشخصية الخاضعة للناموس الديني؛ فهذه قد وُكِّل الفصل فيها إلى القضاة المتعلمين، وأعطوا الاستقلال القضائي بقدر ما تسمح به ظروف السياسة في ذلك العصر.

وكان القرن العاشر الهجري في كل الأنحاء الإسلامية؛ له نظامه الخاص في القضاء القائم على هذا النظام الذي يوجب الحكم في جميع المنازعات بالقانون السماوي (القرآن).

لم يكن القضاء موزعاً إلى مدني وجنائي وأحوال شخصية كما هو الحال لهذا العهد، وإنما هو قاضي واحد للفصل في كل القضايا المدنية، والشخصية، والجنائية؛ هكذا كان القضاء بمصر، والشام، والحجاز، وبالسودان أيضاً؛ والقاضي لهذا السبب يجب أن تتوفر فيه الكفاية التامة، والإحاطة على قدر الإمكان بالشريعة الإسلامية ([1]).

المحور الأول: تطور النظام القضائي في السودان: في مراحل ما قبل الاستقلال الثاني (1956م)

معلوم أن المجتمعات مرت بأطوار متعددة حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن؛ وتبعاً لتطور المجتمعات تتطور النظم الحاكمة لها؛ والنظام القضائي من أهم النظم في المجتمع؛ لاختصاصه بفض النزاعات، والفصل بين الخصوم، وتطبيق الأحكام على الأفراد والجماعات التي يتكون منها المجتمع؛ فضلاً عن حراسة التشريع الحاكم والتأكد من سلامة تطبيقه والالتزام بأحكامه، وقد توصلت الدول إلى مكوناتها الثلاثة؛ التشريعية، والتنفيذية، والقضائية؛ بعد مرورها بعدة تجارب، أخفقت فيها أحياناً ونجحت في بعضها؛ إلى أن استقرت على مفهوم الدولة الحديثة الحالية؛ بأجهزتها التشريعية، والتنفيذية، والعدلية؛ وتوابعها من أجهزة فرعية؛ خادمة للأهداف الكلية التي تحقق سيادة الدول ومصالحها .

القضاء في اللغة: له معانٍ عدة تشمل: الأداء، الإنهاء، الإخبار، الخلق، الموت، الحكم، الإلزام والأمر.

فقد يقصد بالقضاء الأداء والإنهاء والإمضاء، و الحكم والإلزام والأمر ومن ذلك قوله تعالى ﴿فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَٱبْتغُوا مِن فَضْلِ ٱللهِ وَٱذْكُرُوا ٱللهَ كَثِيرًا لعَلكُمْ تُفْلِحُونَ)[الجمعة:10] وقوله تعالى (فَإِذا قَضَيْتُم مَّنَـٰسِكَكُمْ فَٱذْكُرُوا ٱللهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ أوْ أَشَدَّ ذِكرًۭا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا في الدُّنْيَا)[البقرة:200] وقوله تعالى : ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعبُدوا إِلا إِيَاه وَبِالوَالِدَين إِحساناً)[الإسراء: 23].

أما في اصطلاح الفقه الإسلامي: فقد تعددت تعريفاته، حيث عرفه الأحناف بأنه: (قطع الخصومة أو قول ملزم صدر عن ولاية عامة) ([2]). وعُرِّف عند المالكية بأنه: (الإخبار عن حكم شرعي على سبيل اللزوم). وحقيقة القضاء الإخبار عن حكم شرعي على سبيل الإلزام ([3]). وعند الشافعية: (القضاء هو إظهار حكم الشرع في الواقعة ممن يجب عليه إمضاؤه) قال ابن عبد السلام: الحكم الذي يستفيده القاضي بالولاية، وهو بخلاف المفتي، فإنه لا يجب عليه إمضاؤه، ويسمى القضاء حكماً لما فيه من الحكمة التي توجب وضع الشيء في محله لكونه يكف الظالم عن ظلمه، أو من إحكام الشيء ومنه حكمة اللجام لمنعه الدابة من ركوبها رأسها ([4]).

أما في فقه الحنابلة: فهو الإلزام بالحكم الشرعي وفصل الخصومات، إن كان فيه إلزام، أو للإباحة أو الإطلاق، إن كان الحكم في الإباحة، كحكم الحاكم أن الموات إذا بطل إحياؤه صار مباحا للجميع ([5]).

وعلى مدار ومنوال هذه التعريفات الفقهية، تدور كل تعريفات المذاهب الفقهية الأخرى وآراء الفكر والفقه الإسلامي المعاصر ([6]). وعليه فقد اتفقت المذاهب الفقهية على أن القضاء هو الحكم الملزم الذي توقعه سلطة مفوضة، وهو بهذا يختلف عن الفتوى التي تصدر لا على سبيل الإلزام.

 إن الدولة السودانية تعتبر حديثة التَّشَكُّل؛ مقارنة مع الدول العريقة الضاربة في القدم؛ فنحن نتحدث عن نظام قضائي بدأ في القرن التاسع الهجري؛ الخامس عشر الميلادي؛ صحيح هنالك ممالك سودانية سبقت هذا التاريخ؛ ولكن ما توفر لنا من مصادر عن تطبيقات الأحكام الإسلامية في السودان؛ تعود للقرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي).

وسوف أتناول تطور النظام القضائي من التاريخ المذكور حتى يومنا هذا؛ بإيجاز أرجو ألا يكون مخلاً؛ معتمداً على كتاب تطور نظام القضاء في السودان تأليف حسين سيد أحمد المفتي، وعلى الدساتير السودانية، وعلى بعض المراجع التاريخية المتعلقة بالموضوع، وبصفة أخص على منشورات الهيئة القضائية السودانية، وبعض البحوث التي قدمها القضاة والأكاديميون من أهل الاختصاص؛ فأقول وبالله التوفيق:

ــ النظام القضائي في سلطنة الفور (848ه 1444م):

يؤرخ  للقضاء السوداني كنظام قضاء إسلامي بتاريخ قيام أول دولة إسلامية في السودان؛ وهي (سلطنة دارفور) التي بدأت حكم هذا الإقليم (في أقصى غرب السودان) منذ بواكير القرن الخامس عشر الميلادي، وصارت عاصمتها ــ فيما بعد ــ مدينة (الفاشر)، عاصمة ولاية شمال دارفور الحالية؛ وقد استمر حكم السلاطين بدارفور على تطبيق أحكام الشرع الإسلامي والفقه الإسلامي في حياتهم العامة “العبادات والمعاملات “وغالباً  كان يعُنى بالفقه الإسلامي وقتذاك اعتماداً على (مذهب المالكية)([7]) ((و كان السلطان هو الذي يباشر تولية القضاة؛ وكان القضاة في عاصمة السلطنة (الفاشر) يجلسون للقضاء في هيئة مجلس مكون من ستة أو سبعة قضاة، يرأسهم أكثرهم علما، وأقدرهم فطنة في النفاذ إلى بواطن الأمور، وفي الأرياف كان يتولى القضاء قاض منفرد، يتولى الفصل في المسائل الثانوية كقضايا الديون الخفية، وبعض أمور الزراعة، وقضايا النفقة والطاعة، ويحيل القضايا الكبيرة إلى المجلس الأعلى في العاصمة.

وكانت ثقافة هؤلاء القضاة ثقافة دينية مركزة، فجلهم من الذين تلقوا دراساتهم في الأزهر، ولم يكونوا يتعاطون مرتباً محدداً في هذه السلطنة، إذ كان السلاطين يجزلون لهم العطاء ويُقْطِعونهم شاسع الأراضي، كما كانت أموالهم معفاة من الضريبة والعشور، وكل ذلك نزوعاً لتحقيق الاستقرار المادي لهم الذي يعينهم في أداء وظيفتهم بعيداً عن المؤثرات والمغريات.

النظام القضائي في السودان تطوره وخصائصه

وإذا ما جنحنا نحو القواعد القانونية التي كانت تطبق نجد أن القضاء كان شرعياً؛ معتمداً فيه على نصوص الكتاب والسنة، كما أنهم كانوا يطبقون في هذه السلطنة قانوناً عرفياً اشتهر بقانون (دالي) ولفظ دالي في لغة الفور يعني اللسان، ويراد بقانون دالي؛ لسان السلطان أوامره، وهو عبارة عن أحكام تعزيرية مستوحاة من طبيعة دارفور المحلية، والحكم بها يساعد في استقرار الأحوال وردع الجناة الخارجين على المجتمع ونظامه))([8]).ويلاحظ أن القضاء تنظيما وتطبيقا كان يتناسب مع تلك المرحلة التي كانت الحياة فيها تتسم بالبساطة والعفوية بعيدا عن التعقيد في الدولة المعاصرة؛ وكانت إجراءات التقاضي مبسطة ولا تأخذ وقتا طويلا؛ بل ربما يتم حسم القضية المطروحة في جلسة واحدة؛ وينفذ الحكم الصادر مباشرة بعد صدوره.

ــ النظام القضائي في مملكة الفونج 1504م ــ 1821م:

وفي فترة حكم هذه السلطنة، في إقليم دارفور بغرب السودان؛ قامت سلطنة إسلامية في أواسط بلاد السودان سنة(1504م) واتخذت من مدينة (سنار) الواقعة في (أواسط البلاد) عاصمة لها، وعرفت باسم “السلطنة الزرقاء” أو ” مملكة الفونج” نظراً لقبيلة (مجموعة) الفونج التي كان لها إسهام وافر من قيام وتأسيس الدولة وذلك في أعقاب نهاية دولة الأندلس الزاهرة.

قامت مملكة سنار على تحالف بين قبيلتي العبدلاب والفونج؛ (قامت مملكة العبدلاب في الجزء الشمالي والأوسط بالسودان، اثر حلف قام بين عمارة دنقس ملك الفونج وعبد الله جماع؛ الذي يقال انه سُمِّي بذلك لجمعه القبائل لاستقرار النظام لسيادة الفونج؛ وقد تمكنا من خلال تحالفهما ذاك من جمع الجيوش ومن ثم القضاء على الممالك المسيحية، واستقل كل منهما بمنطقة؛ فكانت المنطقة الشمالية هي التي قام فيها ملك عبدالله جماع، على حين امتدت سلطة عمارة على مايلي ذلك جنوبا. كان القضاء في مملكة العبدلاب أنواعاً؛ ضرب منه يتولاه شيخ “قَرِّي” أو الحلفايا ــ عاصمة العبدلاب ــ وآخر أقل شأناً يمارسه حاكم الإقليم أو شيخ الدار، ونوع يقوم به القضاة المختصون، وفوق ذلك كله كان هناك نوع من القضاء يشترك فيه شيخ العبدلاب وقاضيه وكبار رجالات البلد والعسكر والفقهاء؛ في شكل محكمة أقرب ما تكون في اختصاصها إلى محكمة الاستئناف اليوم؛ وكان القانون المرجوع إليه السائد التطبيق هو الشريعة الإسلامية في كافة الأوجه التي تشب وتنشأ فيها المنازعات) ([9]). وكانوا يشترطون في القاضي؛ حفظه للقرآن الكريم، والمعرفة بالتوحيد، وعلوم العربية، والإلمام التام بالفروع الفقهية على مذهب الإمام مالك، ولتأثرهم بالثقافة الصوفية كانوا يشترطون فيمن يتولى القضاء أن يكون أيضاً سالكا لطريق صوفي. ونعني بتطبيق الشرع في تلك المرحلة أن هوية السلطة كانت إسلامية وأن الحكام في الغالب كانوا يحرصون على عدم مخالفة الأحكام الشرعية؛ ولا يمنع ذلك من بعض المخالفات التي يمارسها المجتمع أفرادا وعشائر، فالعرف له سلطته بالرغم وجود الشرع، وحتى الحكام يتجاوزون بعض الأحكام الشرعية في سبيل المحافظة على سلطتهم.

النظام القضائي في السودان تطوره وخصائصه

استمر حكم سلطنة سنار في السودان “السلطنة الزرقاء” حوالي 300 سنة وتزيد من 1504م إلى 1821م وطبقت أحكام الشريعة الإسلامية، والأعراف والتقاليد التي لا تخالف الشرع، وتأسس فيها القضاء؛ فكانت هناك محكمة بمثابة المحكمة العليا تسمى “العُموم” بالإضافة إلى المحاكم الأخرى. وبعضها لمنازعات وخصومات القبائل وأشهرها “محكمة الجموعية” لم تكن سلطة القضاء منفصلة عن الإدارة بهذه الحواجز المتينة واللوائح الصريحة ــ ولكنها على كل حال بفضل نظام الشريعة الإسلامية المقدس؛ كانت هذه السلطة منفصلة إلى حد ما عن الإدارة؛ لمِا رسخ في أذهان الملوك حينئذ من تعظيم العلم، وما اعتقده العامة من وجوب إتباع أحكام القضاء. فلم يكن أحد يخالف أحكام القضاء؛ لأنّ مخالفته لهذه الأحكام فيما يختص (بالأحوال الشخصية) مثلاً يعتبر عند العامة فسوقاً وخروجاً عن العوائد المحمودة، (فإذا حكم القاضي بطلاق امرأة وكان زوجها يرى بطلان هذا الحكم ــ حسب اعتقاده؛ فان الحالة المعنوية الدينية العميقة في النفوس تقوم مقام السلطة التنفيذية لهذا الحكم؛ فلن يجرؤ هذا الزوج على الاقتراب من هذه المرأة إلا إذا استصدر حكماً آخر من عالم آخر يعتبره الناس أعلى كعباً في العلم والتقوى من القاضي الأول. وهنالك قصص كثيرة سجلها (ود ضيف الله في الطبقات) وكيف كان اهتمام الجمهور بإتباع سير النزاع والخصومة في مراحل القضايا المختلفة.

النظام القضائي في السودان تطوره وخصائصه

وليس للقضاء في ذلك العصر نظام يحدد سلطة خاصة للمحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف، إنما هي فوضى من هذه الناحية، فإذا صدر حكم على شخص من ذوي الوجاهة والسلطان؛ عرض قضيته مرة أخرى على أي قاضي يختاره لمراجعة الحكم الأول، فتحصل مكاتبات بين العلماء ومناظرات حتى يصلوا أخيراً للحقيقة، ويكون الفصل في النهاية على ما استقر عليه الرأي العلمي المكون من هذه المخاطبات؛ وربما كتبوا أحياناً بالقضية إلى علماء مصر!([10])  كان القضاة من العلماء والفقهاء الأخيار الأجلاء وأعيان القبائل المشهود لهم بالفطنة والنزاهة والكياسة والشجاعة في الحق، ولقد اشتهرت هذه الفترة بوصول بواكير شيوخ وعلماء الطرق الصوفية؛ فنشروا الدعوة الإسلامية وعلموا الناس القرآن، والفقه، وآداب السلوك الإسلامي؛ ومازالوا إلى يومنا هذا في السودان منارات شامخة للفقه، وتعليم وتحفيظ القران الكريم، وإقامة دور العبادة والإصلاح الاجتماعي، والدعوة إلى طريق الحق، واشتهر في هذا العهد قضاة علماء أمثال القاضي (دشين) الملقب (بـقاضي العدالة)([11]) وله قصص كثيرة مع بعض الشيوخ؛ دخل في خلاف معهم  بسبب إصراره على تطبيق حكم الشرع مهما كانت النتائج فامتدح بذلك.

(وكان الجهاز القضائي عندهم يتكون من محكمة عليا بسنار ــ عاصمة المملكة ــ عليها قاض يلقب بقاضي عموم سنار، وتحته قضاة في كل مشيخة، وكان هؤلاء القضاة يتم اختيارهم من الرجال الصالحين، وكان كل منهم عالماً عدلاً، ورعاً، تقياً، وشيخاً إسلامياً آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، ولحرصهم على تطبيق أحكام الشريعة يروى أن الشيخ محمد القناوي احد قضاتهم، بلغه أن ابنه، وهو قاض أيضاً قد اخذ الرشوة على أحكامه، فركب الشيخ واركب ابنه معه، وحمل علماً ابيض وهو ينادي في السوق؛ أنّ أحكام ابنه باطلة؛ لأنّه ارتشى في قضائه.

وفضلاً عن ذلك؛ عَرَفَت مملكة الفونج نوعاً من القضاء اقرب إلى التحكيم، كان معروفاً بقضاء الشريعة البيضاء، وهو يقوم عند حصول النزاع بين أهل القرى والبوادي البعيدة، برجوعهم إلى أحد العلماء المقيمين بينهم؛ فيقضي هذا العالم بينهم بالشريعة؛ فإذا عارض أحد كان له أن يبعث بالحكم إلى قاضي الجهة للنظر فيه، ومتى وجد القاضي هذا الحكم مطابقا لأحكام الشريعة، فانه يجيزه، ويغدو بذلك حكما نافذا، وإلا كان له أن يبطله) ([12]).

ــ النظام القضائي في العهد التركي المصري:1821ــ 1885م:

في سنة 1821م غزا محمد علي باشا السودان بحملته الشهيرة؛ التي يسميها بعض المؤرخين (بالفتح التركي) ربما إشارة إلى امتداد دولة الخلافة العثمانية في تركيا نحو إفريقيا. ومن ثم أقام نظاماً جديداً للحكم عرف “بالحكم التركي المصري”، وكان أول ما قام به هو نقل العاصمة من سنار عاصمة (السلطنة) إلى مدينة (ود مدني) الواقعة على الضفة الغربية للنيل الأزرق، في وسط السودان، وهي عاصمة ولاية الجزيرة حالياً، وفي خطوة لاحقة أخرى؛ تم نقل العاصمة من ود مدني إلى عاصمة جديدة هي (الخرطوم) الحالية؛ فهي تتوسط النيليين الأزرق والأبيض عند مقرنهما في جزيرة (توتي)؛ ليُكَوِّنا نهر النيل المنساب شمالا إلى أرض الكنانة مصر.

 ففي هذا العهد التركي 1821 ــ 1885م نجد أن الهيكل القضائي كان على رأسه قاضي عموم “سودان” الذي يتم تعيينه بأمر خديوي مصر، وكان القاضي يختار القضاة الآخرين الذين يتولى حكمدار عموم السودان تعيينهم، وكان هناك مجلس لكل مديرية، ومجلس استئناف بالخرطوم يسمى مجلس استئناف السودان، وفي بعض الأحيان كان يخصص لكل مديرية مفتٍ يقوم بالتصديق على أحكام ذلك المجلس وتخضع لموافقته.

وكانت المحاكم في أول هذا العهد تطبق الشريعة الإسلامية في كافة أوجه المنازعات؛ فقضايا القتل، والسرقة، والقضايا المدنية؛ المتعلقة بحقوق الناس، وقضايا الأحوال الشخصية؛ كل تلك كانت تنظرها المحاكم وفق تعاليم الشريعة الإسلامية من غير فصل بين جانب وآخر، وعلى غير المتبع فقد كان المذهب المطبق هو المذهب الحنفي؛ بحسبان أنّه مذهب الدولة العثمانية، واستمر الشأن على ذلك ردحا من الزمن، ثم لما أنشئت في مصر في عهد سعيد باشا؛ المجالس المحلية لتقضي بالقانون (الهمايوني)([13])، وتلتها في عهد توفيق باشا المحاكم المختلطة والمحاكم الأهلية، وكلتاهما كانت تطبق القانون الجنائي، والقانون المدني؛ المستمدين من قانون نابليون، وبعض القوانين العثمانية، ظهر صدى ذلك كله في السودان، فلم يعد تطبيق الشريعة الإسلامية شاملاً  كما هو الحال في صدر هذا العهد([14]).

صحب الحملة التركية علماء من ثلاثة مذاهب؛ “الأحناف ــ المالكية ــ الشافعية”، وظل القضاء بذات نظمه ومحاكمه؛ ولكن الفتوى صارت على الثلاثة مذاهب؛ بحسب مذهب المفتي، وتبعاً لذلك كان القضاء، إذ أنّ القضاة والعلماء يتداولون الآراء الفقهية والاجتهادات، وأحياناً يكون القاضي من طبقة هؤلاء المفتين، وانتهى هذا الحكم التركي في سنة 1881م بقيام ثورة شعبية إسلامية، قادها الإمام محمد أحمد بن عبد الله المهدي؛ واستطاع أن يقيم الدولة المهدية ــ التي توطدت في سنة 1885م عقب فتحه واسترداده للخرطوم وأم درمان ([15]).

ــ النظام القضائي في دولة المهدية (1885ــ 1899م):

الدعوة المهدية في السودان قامت استجابة لتطلعات أهل القبلة في الإصلاح الديني؛ ومحاربة الفساد الاجتماعي الذي استشرى في معظم أرجاء العالم الإسلامي آنذاك؛ وكانت الحالة في السودان؛ مثلها مثل بقية العالم الإسلامي، إضافة للظلم الذي مارسه الحكام الأجانب ضد الأهالي بصورة فظيعة؛ وتواطؤ كثير من العلماء مع الحكام حتى اندرس الدين فأصبح اسماً وهجر القرآن فصار رسماً! دعت هذه الظروف مجتمعة؛ المهدي للقيام بدعوته، فقد رأى في السودان فريقين من الناس: فريقاً عاش في بؤس وشقاء وتعذيب وإرهاق، وهم جمهور الشعب السوداني؛ وفريقاً يعيش في نعيم وثراء ولهو وإسراف، وهم طبقة التُّجّار وأرباب المناصب في الدولة، ورأى كذلك حكاماً ينتسبون للإسلام، ولكنهم في أحكامهم ومعاملة الرعية، بعيدون عن الإسلام، ومن ورائهم حكام غير مسلمين، ركنوا إليهم واستعانوا بهم في إذلال الناس ونهب أموالهم، ورأى من واجبه أن ينهض للإصلاح، ويدعو الناس للعمل بتعاليم الإسلام ليحقق العدالة، ويضمن للناس الحياة الحرة الكريمة، واتخذ لتحقيق أهدافه وسائل معينة نذكر منها ما يتعلق بموضوع بحثنا الآتي:

النظام القضائي في السودان تطوره وخصائصه

ــ أقام في المنطقة التي امتد إليها نفوذه نظاماً إسلامياً، وطبق تعاليم الإسلام في جميع نواحي الحياة، فعيَّن قُضاة من صفوة العلماء الأتقياء، ونوابا عنه في الأقاليم ممن يثق بصلاحهم وعلمهم، وعَهِد إليهم مُباشرة القضاء والأحكام، والفصل بين الناس، ونظّم الشؤون المالية فأنشأ بيت المال، وعيَّن جُباةً لجَمْع الزكاة، وقسَّم الغنائم كما تقتضي الشريعة الإسلامية. ومنَع حيازة الأرض؛ لأنها لاتُمَلَّك، بل هي محُوزَة لبيت المال، وجعل بيت المال مَوردا لرزق المسلمين، يُعْطي كل [واحد] منهم بِمِقْدار حاجته، هو وعائلَتَه.

ــ رجع في أحكامه إلى عهد الإسلام الأول، فلم يتَقَيَّد بمذهب من المذاهب الأربعة في أحكامه؛ لأن المسلمين في أوَّل عهدهم لم يكونوا مُختلفين في مَذاهبِهم وأحكامهم، ولأن الاختلاف في المذاهب قد يضر بعقول البسطاء الذين لم يتفقهوا في الدين، ولم يَقِفُوا على أصوله وتعاليمه، فكان يَرْجع في أحكامه إلى مصادر الفقه الإسلامي من الكتاب والسنة، وكان قُضاتُه الذين اختارهم من صفوة العلماء، قادرين على الرجوع في قوانينهم وأحكامهم إلى ما كان عليه المسلمون في حياتهم الأولى، ورأيه في هذا متفق مع رأي المصلح محمد بن عبد الوهاب([16]).

 قام الإمام محمد احمد المهدي بأعباء إدارة وقيادة الدولة المهدية في السودان بعد أن نقل العاصمة من الخرطوم إلى مدينة (أم درمان) وسماها (البقعة المباركة)، متمسكاً بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وقد صاغ أحكام الفقه الإسلامي مستنداً على الكتاب والسنة واجتهاده في قوانين سماها “المنشورات” عُرِفت في التاريخ بمنشورات المهدية ([17]) والمنشورات عبارة عن تقنين للأحكام واجتهاد لمواجهة مستجدات الحياة وقد صاغ قاعدة شرعية في ذلك “لكل وقت ومقام حال، ولكل زمان وأوان رجال”.

كان لمحاكم دولة المهدية كُتّاب يقومون بتسجيل الأحكام الصادرة من المحاكم في سجلات خاصة ([18]) وقد حوت تسجيلاتهم ملخصاً للجريمة، وأقوال المتهم، وأقوال الشهود، والحكم الصادر في القضية؛ وكانوا ينسخون صورة من هذا الحكم ويرسلونها إلى جهة التنفيذ بعد أن يوقع عليها المهدي أو الخليفة أو القضاة.

أما أحكام القتل، وقطع الأطراف؛ فقد كانوا يحررونها في كشف خاص يرفعونه إلي قاض الإسلام الذي يرفعه بدوره إلى الخليفة أو المهدي للتصديق، كما اهتمت محاكم دولة المهدية بتسجيل القوانين الصادرة من المهدي، والخليفة عبد الله إلى القضاة والنواب والعمال، وتسجل القضايا الواردة من الأقاليم ورد الخليفة عليها، وكانت النمرة التي يسجلون بها القضية هي تاريخ تحريها.

 كان المهدي يعتمد في فصل الدعاوي المرفوعة إليه على الشهود، وكان يأمر قضاته أن لا يأخذوا بغير الشهود، فإذا أقسم المدعى عليه أنه بريء؛ كان على المدعي أن يثبت بالشهود دعوته، فإذا أتى المدعي بالشهود لإثبات حقه حسب طلب القاضي ولم يحضر المدعى عليه لسماع البينة؛ فان القاضي يكتب له للحضور قائلاً (…إما أن تحضر لإكمال دعاويك أو نحكم عليك…) ([19]).

منح المهدي بعض عماله في الأقاليم حق سماع الدعوي المتعلقة بالمسائل السياسية والجنائية والغنائم؛ فقد وجه منشوراً للقواد والنواب جاء فيه (…اعلموا أيها الأمراء والنواب أنّ لكل أمير منكم أو مقدم أو نائب هنا في سائر الجهات؛ أن يتدارك الأمور والقضايا بالحكم فيها وراحة أصحابها بما شرع الله فيها من الدين؛ وكل منكم يحكم في أهل جهته وناحيته بحكم الله ورسوله، وبحكم منشورنا هذا؛ ولا تتركوا أحداً يرجع إلينا شاكياً، وانظروا الوقائع واحكموا فيها على وجه الصواب…) ([20]).

هذا المنشور وضع بداية راسخة للأسس والموجهات الخاصة بتنظيم وضبط الجهاز القضائي والإداري المطلوب لتلك المرحلة، والاستعداد لمرحلة توسع الدولة؛ كما يعكس وضوح الرؤية والهدف في إنشاء جهاز قضائي وإداري عادل يواجه متطلبات المرحلة ويحقق العدالة وتتلخص الرؤية في الآتي:

  • التأكيد على أن المهدي؛ يمثل رأس السلطة القضائية، وأن تفويض الصلاحيات للخلفاء والأمراء والنواب يأتي في إطار التكليف.
  • مخاطبة المسئولين بما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات الوظيفة؛ مع توضيح السلوك المطلوب لشغل الوظيفة العامة في إطار مبادئ وأهداف الدولة الواضحة والمعلومة.
  • تحديد المسئوليات والصلاحيات والحدود الجغرافية لممارسة الأحكام لكل مسئول في المستويات الإدارية المختلفة.
  • التوجيه بالالتزام بما شرعه الله فيها من الدين وفقاً لكتاب الله وسنة رسوله.
  • التوجيه بتوخي العدالة والإنصاف وتجنب غرور النفس الأمارة بالسوء وعدم المحاباة.
  • أن الإمارة والخلافة والنيابة عنه لا تتم في الأحكام والقضايا إلا لمن يشفق على خلق الله ويزهدهم في الدنيا ويرغبهم في الآخرة مما يعنى أن تقويم السلوك يجب أن يسبق الأحكام والعقوبات.
  • تحديد الموجهات الخاصة بالتحول في رفع القضايا من النظام القائم إلى النظام الجديد وفق رؤية القائد مع تصنيف أنواع الدعاوى ([21]).

ومن جهة أخرى طلب المهدي من الأمناء أن لا ينقضوا حكم نواب الشرع إلا إذا وجدوا خللا فيه؛ فإذا وجدوا خللاً في الحكم عليهم أن يجتمعوا بالقضاة والنواب وليناقشوا  معهم هذا الحكم حتى يمكن الاتفاق على الحكم الصائب؛ وإذا لم يصل الطرفان إلى اتفاق يعرض الأمر علي المهدي (…ولا تنقضوا حكم النائب ولا القاضي إلا  إن رأيتم خللا فيما يعرض عليكم فتذاكروا معه فيما بينكم واتفقوا على ما فيه الصواب وما يلزم عرضه عليّ تعرضونه عليّ، ويكون أمركم شوري مع الخليفة عبد الله خليفة الصديق؛ وما يلزم عرضه على بقية الخلفاء والإخوان للمشورة فيه لتتفق القلوب …)([22]).

وكان نائب الشرع إلى جانب مهمته الرسمية يكلف بمهام دينية فمثلاً كان عليه أن يؤم الناس في الصلاة يوم الجمعة وفي الأعياد؛ أو يكلف بمهام اجتماعية كعقد القران، والإشراف على حقوق اليتامى حتى يبلغوا سن الرشد، كما كان يكلف بمهام حربية كقيادة الجيوش ([23]).

وكان المهدي في بعض الأحيان؛ يفسر بعض المنشورات، وينشر ذلك التفسير على القضاة، وكان فيما عدا ذلك يعين لكل جهة من الجهات التي تدخلها جيوش المهدية عالماً من العلماء يتولى مهمة القضاء فيها… وغالباً ما يكون هؤلاء القضاة من الذين تثقفوا ثقافة دينية، وتلقوا علومهم في الأزهر، ومن أشهر هؤلاء القضاة؛ الشيخ الحسين ود الزهراء، والشيخ إسماعيل عبد القادر الشهير بإسماعيل المفتي، والشيخ محمد البدوي ([24]).

 كان الإمام المهدي في هذا العهد؛ هو قمة الجهاز القضائي؛ والمرجع الأخير في الشئون التي تتعلق به، وكان يساعده في إدارة الشئون القضائية قاض يُلقب بقاضي الإسلام؛ يتولى التصديق على الأحكام، وبخاصة فيما يتعلق بالقصاص، ويتلقى الاستئناف، ويرشح العلماء لمناصب القضاء، وقد طلب محمد المهدي من أصحابه أن يرفعوا إليه مظالمهم سواء وقع الظلم منه شخصياً أو من الخلفاء أو الأمراء أو الأشراف (…ولعل المهدي أراد أن يضرب مثلاً لمعاونيه في محاسبة النفس إذ قال: أحبابي سألتكم بالله العظيم ونبيه الكريم، من كانت له عليّ مظلمة والحال أني ناسٍ لذلك، فليطلبني قبل الآخرة فإني قد اتهمت نفسي بذلك، ومن كانت له مظلمة على الخلفاء فليطلب ذلك إذ كان من شرط نصيحته أن يطلب ذلك؛ فلا يؤخر ذلك إلى الآخرة حتى يتأخر في الآخرة عن الله بحسن اللقاء…)([25]).

كانت المحاكم في عهد المهدية في السودان تقسم إلى درجات؛ أعلاها المحكمة العليا (محكمة أم درمان) وتتشكل من عشرين من القضاة يعملون بنظام القاضي الفرد في القضايا كلها، ماعدا القضايا الجنائية الكبرى؛ فكانت تنظر بواسطة قضاة المحكمة العليا مجتمعين برئاسة قاضي الإسلام. وهنالك محاكم الأقاليم سميت آنذاك (محاكم العمالات) وكانت تختص بالنظر في كافة الأقضية أيضاً بنظام القاضي الفرد؛ إلا الجنائية الكبرى فتُنظر بواسطة أعضاء المحكمة مجتمعين ([26]).

ــ كما عرف نظام القضاء المتخصص “محكمة الموردة” وهي تختص بقضايا ميناء الموردة، حيث يرتاده التجار بمراكبهم التي تحمل بضائعهم.

ــ محكمة السُوق: وهذه تراعي وتراقب الأثمان والأسعار والآداب العامة والمخالفات.

ــ محكمة الكَارةَ: وهذه محكمة لقضايا العسكر والجند.

ــ محكمة رد المظالم ومحكمة المحتسب: وقد أنشئت لتحقيق ذات الأهداف التي ترمي إليها الشريعة الإسلامية.

ــ محكمة بيت المال: وهي محكمة متخصصة في قضايا المال العام.

((كانت الأحكام التي تصدرها محكمة أم درمان بصفتها الابتدائية أم بالصفة الاستئنافية تكتسب (قوة الأمر المقضي به) فلا يجوز الطعن فيها بوجه من الوجوه؛ أما الأحكام الصادرة من محاكم الأقاليم (العمالات) وغيرها من المحاكم الخاصة فكانت قابلة للاستئناف أمام المحكمة العليا (محكمة أم درمان) وكانت محكمة أم درمان العليا تنظر في الاستئنافات في شكل دائرة برئاسة قاضي الإسلام وحضرة كل أعضاء المحكمة؛ فإن وجدت القضية موافقة لمنشورات المهدي؛ أو النصوص الشرعية؛ تم تأييدها وإلا أُلْغِيت وأعيد نظرها بواسطة المحكمة العليا لإصدار حكم نهائي فيها))([27]) كما اهتم الإمام المهدي؛ بشؤون القضاة ورواتبهم منتهجاً منهج الشرع الإسلامي؛ حيث أوجب للقضاة كفايتهم، وليس مجرد حاجتهم، من بيت المال كونهم محبوسين لخدمة العدالة والسهر عليها، وهي مصلحة للمسلمين.

ــ النظام القضائي في عهد الاستعمار الثنائي 1899ــ 1956م:

عهد الحكم الثنائي (1898 ــ 1956م ) يمثل الفترة التي حُكِم فيها السودان بواسطة دولتي الحكم الثنائي مصر وبريطانيا اثر هزيمة جيوش المهدية وسقوط أم درمان سنة 1898م ويمتد إلى استقلال البلاد عام 1956م”[28] كانت إدارة حكومة السودان تختلف عن إدارة المستعمرات البريطانية، فبدلا من سكرتير أول يكون مسئولا لدى الحاكم العام عن الإدارة ككل وتوكل إليه الأشياء الهامة؛ كان يوجد سكرتيرون ثلاثة في السودان؛ إداري ومالي وقضائي… وكان السكرتير القضائي مسئولا عن التشريع والقضاء ومصلحة الأراضي وتسجيلات الأراضي”[29] وفي تلك الحقبة ” كانت تتولى الفصل في القضايا في السودان المصلحة القضائية، ولم تكن مستقلة عن السلطة التنفيذية ؛ ويظهر من اسمها أنها مصلحة من سائر المصالح التي تتبع للحاكم العام، وكان السكرتير القضائي ينوب عن الحاكم العام في إدارة القضاء . وقد قسم المستعمر الانجليزي القضاء إلى قسمين: أحدهما القسم المدني؛ ويشمل الدوائر المدنية والجنائية ويرأسه رئيس القضاء. وثانيهما القسم الشرعي؛ ويرأسه قاضي القضاة. ويرأس الجميع السكرتير القضائي؛ وهو يرأسه الحاكم العام”[30]ولعله من البديهي أن يفكر الحكام في مطلع هذا العهد، وإثر دخولهم مباشرة، في سن قوانين تحكم علاقات الناس وتنظم حياتهم؛ ذلك أن القانون هو الأداة الأساسية التي يستخدمها الحاكم في إدارة شئون البلاد وسياسة أمر الرعية وفق ما يبتغون، لذا كان سن القوانين من الأمور العاجلة الملحة التي سعى وسارع الساسة الجدد إليها، وبحكم أن القوانين التي كان يركن إليها الحليفان في بلادهم كانت قوانين غير إسلامية، فقد قاد هذا بدوره إلى أن يدخل السودان في تجربة جديدة لم يألفها من قبل، وهي عزل الشريعة عن الحكم المطلق في كافة المسائل، ونتج عن هذا ولأول مرة في تاريخ البلاد؛ تقسيم المحاكم إلى شقين محاكم شرعية، وهي المحاكم الموكول إليها الحكم وفق الشريعة الإسلامية، وقد حُصِر اختصاصها في نطاق الأحوال الشخصية. ومحاكم مدنية. و”الأحوال الشخصية” عبارة مستحدثة كما يقول العلامة الشيخ الزرقا في كتابه القيم “المدخل الفقهي” إنها عبارة مأخوذة من أصل فرنسي. مدلول كلمة الأحوال الشخصية يعني الزواج والفرقة وأحكامهما وحقوق الأولاد من نسب ورضاعة وحضانة وولاية ونفقة، ونفقة الأقارب وأحام المفقود والميراث والوصية والهبة والولاية على المال، وقد جعلت الولاية للمحاكم الشرعية على هذه المسائل بموجب قانون المحاكم الشرعية السودانية 1902م وكان قانونا موجزا عدته عشر مواد فقط في ورقة واحدة من صفحتين وهو قانون إجرائي”[31]  وأما المحاكم المدنية؛ فهي المحاكم التي شمل اختصاصها كل ماعدا الأحوال الشخصية المتعلقة بشئون المسلمين، مثل المسائل المدنية والتجارية والجنائية والأحوال الشخصية لغير المسلمين، إلا إذا ارتضى هؤلاء حكم الشريعة الإسلامية، وقد أنشئت بجانب هذا النوع الأخير من المحاكم؛ محاكم الرؤساء، والمحاكم الأهلية؛ لكي تساعدها في بعض سلطاتها واختصاصها، في مستوى معين، وبكيفية خاصة، حددها القانون. كما نهض بعبء الحكم فيها بجانب القضاة؛ المفتشون، والمآمير.

 وفيما يختص بجانب الأحوال الشخصية الذي تطبق فيها الشريعة الإسلامية؛ فقد تم تعيين الشيخ محمد شاكر من قضاة مصر المعروفين في 28 مارس 1900 قاضيا للقضاة، وقاضي القضاة هو قمة الهرم؛ وتشكل المحكمة العليا منه رئيسا ومن مفتي عموم السودان وعضو آخر أو أكثر؛ وتصدر الأحكام من ثلاثة فقط، ولقاضي القضاة أن يسن على حسب اللوائح بمصادقة الحاكم العام القواعد التي تجري عليها المحاكم الشرعية في أحكامها ونظاماتها، وتشكيلها واختصاصاتها وكل عمل يتعلق بها واللوائح المختصة بتحديد واجبات وأعمال موظفي المحاكم الشرعية، وبيان الرسوم التي تتقاضاها تلك المحاكم[32] وبحكم أن قاضي القضاة هو سلطة التشريع العليا في المحاكم الشرعية، فقد قام الشيخ شاكر بوضع لائحة ترتيب المحاكم الشرعية التي تناولت بالتفصيل شروط اختيار القضاة والموظفين لهذه المحاكم، واختصاصاتها وتقسيمها إلى غير ذلك من المسائل التنظيمية، والثانية اللائحة النظامية للمحاكم، وهي تتناول بعض المسائل الإجرائية التي تتعلق بالسير في الدعاوى، وثالثها لائحة الرسوم، وقد أدمجت لائحتا الترتيب والنظام في فترة لاحقة عندما تولى الشيخ المراغي منصب قاضي القضاة، وصارتا لائحة واحدة هي لائحة ترتيب ونظام المحاكم الشرعية، مع إجراء بعض التعديلات والإصلاحات فيها، كما أضيفت في فترة تالية إلى هذه اللائحة لائحة أخرى؛ هي لائحة المأذونين. وقسمت المحاكم في هذه المرحلة إلى محكمة العموم وتسمي محكمة التمييز،وهي المحكمة العليا،  وتليها محاكم أدنى هي محاكم مديريات، ومحاكم محافظات، ومحاكم مراكز؛ وكل محكمة من هذه المحاكم تشكل من قاض فرد، وقد بلغت هذه المحاكم في 1908م أربعا وأربعين محكمة في جميع أنحاء السودان (ماعدا دارفور) لأن الأخيرة لم تسقط في أيدي الاستعمار إلا في 1916م[33]  هذا وقد حدد قانون المحاكم الشرعية الذي يعتبر الأساس في تكوين المحاكم الشرعية؛ مسائل الأحوال الشخصية وعرفها وبيَّن أن المذهب الذي يطبق هو الراجح من مذهب الحنفية؛ إلا في المسائل التي يصدر فيها قاضي القضاة منشورات أو مذكرات قضائية؛ فيعمل بما ينص قاضي القضاة عليه من آراء فقهاء الحنفية أو غيرهم من أئمة المسلمين وفقهائهم. وقد اصدر القضاة المتعددون الذين تعاقبوا على هذا المنصب العالي؛ منشورات عديدة خرجوا فيها عن الراجح من مذهب الحنفية إلى غيره من مذاهب فقهاء المسلمين أو إلى غير الراجح من مذهب الحنفية أنفسهم؛ لضرورة تستدعي ذلك وتستوجب تحقيق مصلحة لم يكفلها الراجح من مذهب الحنفية، وقد بلغت هذه المنشورات إلى قبيل عهد الاستقلال ثلاثة وخمسين منشورا، هذا فيما يختص بالمحاكم الشرعية التي أنيط بها تطبيق الشريعة الإسلامية في مجال الأحوال الشخصية، أما المحاكم الأخرى؛ فقد كانت تعتمد في قضائها على القوانين التي سنتها السلطة، والتي تعتمد في جانبها الموضوعي على نظام القانون الانجليزي؛ مع الاستعانة بقوانين بعض البلاد التي كانت تحت التاج البريطاني، كالهند وبعض أقطار أفريقيا، وقد أصدرت السلطة أوامر صادرة عن الأساس المذكور؛ جملة قوانين منها قانون العقوبات لسنة 1925 الذي حل محل قانون 1899 وقانون القضاء المدني 1925 الناسخ للقانون المدني لسنة 1900 وقانون الشفعة لسنة 1928 وقانون وضع اليد وسقوط الحق بالتقادم لسنة 1928، وجملة قوانين أخرى”([34]).

المحور الثاني: النظام القضائي في عهد السودان المستقل المعاصر:

سودنة المصلحة القضائية: استعملت عبارة السودنة بمعنى إحلال الموظفين السودانيين مكان الموظفين الأجانب[35] نصت اتفاقية الحكم الذاتي وتقرير المصير التي صدرت عن دولتي الحكم الثنائي بتاريخ 12/2/1953م في بندها الأول على أن تكون هناك فترة انتقالية توفر للسودانيين حكما ذاتيا كاملا ؛ وبموجب تلك الاتفاقية صدر قانون الحكم الذاتي في 21 مارس 1953م وتم بموجبه الفصل بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية؛ وفيما يتعلق بالسلطة القضائية نصت المادة (76) من قانون الحكم الذاتي على أن “تتولى إدارة العدالة في السودان هيئة منفصلة مستقلة بالدولة تسمى “القضائية”[36] ونشير هنا إلى أن منصب قاضي القضاة قد تمت سودنته في سنة 1947 م قبل صدور قانون الحكم الذاتي المشار إليه أعلاه؛ ففي الأسبوع الأول من أكتوبر 1947م أبلغت حكومة السودان – الحكومة الاستعمارية-  الحكومتين المصرية والبريطانية بأن الشيخ أحمد الطاهر قد عٌيِّن قاضيا للقضاة بمقتضى المادة 11(2) من معاهدة سنة 1936م واعترضت الحكومة المصرية ووصل النزاع بين الحكومتين الاستعماريتين لمجلس الأمن، كذلك انقسم الرأي العام السوداني بين مؤيد ومعارض! وصدرت فتاوى علمية طريفة بين لجنة الفتوى في الأزهر، وبين مفتي الديار السودانية حول هذا الموضوع. فقد استُفْتِيَت لجنة الفتوى بالأزهر عن “صحة ولاية قضاء الأحوال الشخصية، ومسائل الأوقاف، والشئون الدينية في السودان؛ من قبل قاضي قضاة يستمد ولايته الشرعية من حاكم السودان العام غير المسلم، دون الرجوع إلى حاكم مصر المسلم الذي يستمد حاكم السودان العام غير المسلم سلطانه منه فيما عدا منصب قاضي القضاة؟ وقد أشير في الاستفتاء إلى أن أهل السودان يدينون “بصفة عامة بمذهب الإمام مالك عبادة ومعاملة، وتطبق المحاكم الشرعية أحكام مذهب الإمام مالك في كثير من أمهات مسائل الأحوال الشخصية؛ كمسألة الولاية في النكاح، ومسألة الحضانة.. ويرجع العمل بهذه الأحكام إلى رغبة عامة من أهالي السودان في أن تطبق عليهم أحكام مذهب الإمام مالك”[37]   وقد أفتت لجنة الفتوى بالأزهر؛ أنه إذا وَلَّى حاكم السودان العام قاضيا من القضاة؛ كانت توليته باطلة، لا يكتسب بها المُوَلَّى ولاية القضاء. فلا ينفذ قضاؤه بمقتضاها؛ وجاء في الفتوى أنه استنادا إلى ثلاث قواعد شرعية قرر فقهاء المذاهب الأربعة ” أنه لا يجوز تولي القضاء من غير المسلم. وإذا وقعت التولية كانت باطلة.. والقواعد الثلاث التي أوردتها لجنة الفتوى هي: “أن القضاء ولاية شرعية، وأنه لا ولاية لغير المسلم على المسلم، وأنه لا ولاية له في شيء لا يملك تولية غيره فيه” وذكرت لجنة الفتوى أنها لا تعلم أحدا من علماء المسلمين خالف فقهاء المذاهب الأربعة في شيء من هذه القواعد ولا فيما بني عليها. وخالف مفتي الديار السودانية فتوى الأزهر وقال: ” إن تلك الفتوى قد بنيت على مبادئ عامة، وأن هنالك استثناء لكل قاعدة. إذ يتعين عند إصدار الفتوى أخذ الظروف السائدة في الاعتبار، وكذلك إعمال القواعد الفقهية العامة مثل قاعدة” إذا ضاق الأمر اتسع” وقاعدة “الضرورات تبيح المحظورات” وفيما يتعلق بعدم مخالفة الفقهاء الأربعة؛ قال مفتي الديار السودانية: إن فقهاء الحنفية وهم من فقهاء المذاهب الأربعة يجيزون تولية الكافر للقضاء. فابن عابدين لا يشترط الإسلام بالنسبة للسلطان الذي يقوم بالتولية، فإذا ولى الكافر قاضيا ورضيه المسلمون صحت توليته بلا شبهة. وتطرق المفتي إلى ما أورده أبو السعود في “الكنز” نقلا عن “الفتح” من أنه إذا لم يكن هنالك سلطان ولا من يجوز تقلد القضاء منه.. فإنه يجب على المسلمين أن يتفقوا على واحد منهم يجعلونه واليا فيولي قاضيا ويكون هو الذي يقضي بينهم. وبناء على هذا. قال المفتي: إنه إذا لم يسمح للمسلمين بإدارة شئونهم، فإن تقلُّد القضاء من الكافر يكون جائزا، وإلا فإن فريضة إقامة العدل بين الناس ستتعطل، وفي ذلك من الضرر ما يفوق ضرر قبول التقلد نفسه. والأخذ بالضرر الأخف يتفق مع القاعدة الفقهية العامة “الضرورات تبيح المحظورات”[38]

انفصام إدارات عن القضائية وانضمام أخري إليها عند السودنة: لقد أصبح القضاء هيئة مستقلة قائمة بذاتها وتبعا لذلك حدثت بعض التغييرات فقد انفصلت عنها إدارات وقد تطور بعضها إلى وزارات؛ وأضيفت إليها أخرى؛ والإدارات التي انفصلت عن القضائية هي: وزارة العدل، والمسجل التجاري، والإحصاء، والشئون الدينية والأوقاف، ومعهد أم درمان العلمي الذي تطور إلى جامعة أم درمان الإسلامية، ومصلحة الأراضي. وأما المصالح التي عادت إليها فهي: المحاكم الأهلية، ومحاكم الزعماء القبليين؛ فقد كانت هذه المحاكم حتى 1953م تتبع لمديري المديريات تحت إشراف السكرتير الإداري؛ وقد أبقيت المصالح التي تناسب القضائية على حالها مثل: تسجيلات الأراضي ، ومسجل العقود، والمدير العام للتركات؛ فهذه تتبع للقضائية وقد نصت على ذلك المادة 67(2) من قانون الحكم الذاتي[39]لخص مولانا الدكتور خليفة بابكر الحسن؛ تطور النظام القضاء المستقل في مقال توثيقي محكم، نشره في صحيفة البيان الإماراتية بتاريخ 22/5/2002م أنقل فقرة طويلة منه لأهميتها حيث قال فيها: (استمر القضاء في مسيرته بعد الاستقلال الذي كان في عام 1956 و”سودن” محمد أحمد أبو رنات؛ منصب رئيس القضاء، وهو من القضاة المتمرسين، والفقهاء النابهين في القانون؛ كما تولى الشيخ حسن مدثر الحجاز؛ منصب قاضي القضاة؛ وهو سليل أسرة دينية عريقة، ومن الشخصيات البارزة في المجتمع السوداني، ومن الجدير بالذكر هنا أن منصب قاضي القضاة؛ كان قد تمت سودنته قبل الاستقلال؛ في الأربعينيات من القرن العشرين، وأول من تقلده هو الشيخ احمد الطاهر، وبعد الاستقلال على مستوى التعليم القانوني، أنشئت جامعة القاهرة فرع الخرطوم؛ وكانت ــ من كلياتها ــ كلية الحقوق؛ وهي كلية ناشطة فأسهمت برفد القانون السوداني بأصول الثقافة القانونية الفرنسية، وتجارب القضاء المصري في التعريب، والاستفادة من الشريعة الإسلامية؛ فنتجت عن ذلك وشاعت ثقافة قانونية تقترب من الشريعة الإسلامية، والاجتهادات القانونية العربية، وقاد ذلك بدوره إلى وضع قوانين جديدة ـ في بداية السبعينيات ـ اعتمدت التعريب، والأخذ من الشريعة الإسلامية، والتجارب القانونية العربية، كما تم في هذا الإطار؛ توحيد القضاء بدمج القضائين الشرعي، والمدني، وتقسيم دوائر القضاء تقسيماً موضوعياً يقوم على الاختصاص، وكانت مصر قد سبقت السودان في هذا المضمار، ثم نسخت هذه القوانين قوانين أخرى؛ التزم فيها التعريب لكنها اعتمدت على التجربة القضائية السودانية البحتة؛ التي نشأت في إطار الثقافة القانونية الانجليزية. ولم تنس هذه التجربة ـ أيضاً ـ الاستفادة من الشريعة الإسلامية، وصدرت أخيرا قوانين الشريعة الإسلامية في عام 1983 ومن خلال التطورات المختلفة التي غشيت القانون السوداني، نلاحظ أن الاتجاه إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان؛ كان اتجاها طبيعيا من جهة انه يصل بالفترة الأولى التي سبقت عهد الاستعمار والتي كانت الشريعة الإسلامية مطبقة فيها في عهد الفونج والأتراك والمهدية، ومن جهة أن القوانين التي وضعت بعد الاستقلال ــ رغم اختلافها ــ باعتماد قوانين منها على الأصول الفرنسية، والاتجاهات العربية المعاصرة في القانون، واعتماد الأخرى على التجربة القضائية السودانية والقانون الانجليزي؛ إلا أنها جميعا؛ كانت تقترب من الشريعة الإسلامية، وتأخذ ببعض أحكامها ومبادئها؛ مما مهد الطريق للقوانين الأخيرة التي اعتمدت تقنين الشريعة الإسلامية نفسها، وقد مضت الآن على القوانين الأخيرة فترة طويلة؛ تقارب العشرين عاماً([40])، ولاشك أن هذه الفترة الطويلة قد مكنت هذه القوانين من التفاعل مع الواقع الاجتماعي والبيئي والقضائي، ووصلت الفقه الإسلامي باجتهادات القضاة وتفاسيرهم؛ وبخاصة مبادئ المحكمة العليا. والشريعة الإسلامية ـ في البدء والنهاية ـ هي شريعة الفطرة )فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ( [الروم:30] وهي شريعة تراعي واقع الناس وظروف الزمان والمكان مع ما تهدف إليه من رفق ويسر ورحمة؛ فإذا أضفنا لذلك ما في الطبيعة والجِبِلَّة السودانية ـ في مجمل أمرها ـ من توازن فإن ذلك ادعى إلى إرساء قواعد فقهية جديدة تعتمد على الأصل وتتجاوب ـ في الوقت نفسه ـ مع العصر (([41]).

تطور الهيئة القضائية: بقيت الهيئة القضائية لمدى 72 عاما على الحال التي أنشأها عليها الانجليز منقسمة على نفسها إلى قسمين مدني وشرعي ولها رأسان: رئيس القضاء وقاضي القضاة؛ ونص على ذلك في المادة (91) من دستور السودان 1956 المعدل 1964م وفي سنة 1972م تم دمج القسمين وألغيت تسمية رئيس القضاء وقاضي القضاة وجعل الإشراف على الهيئة القضائية لوزير العدل حيث نصت المادة(55) من قانون السلطة القضائية” لوزير العدل حق الإشراف على جميع المحاكم والقضاة” وهذا القانون مأخوذ برمته من النظام المصري، ثم صدر قانون جديد للهيئة القضائية في 8/5/1973م ألغي بموجبه قانون 1972م ولكن بقي لوزير العدل الإشراف الإداري على القضائية؛ وتوالت القوانين حتى تم الدمج النهائي للقضائية في 11/8/1983م وألغي نظام تقسيمها إلى قسمين مدني وشرعي، وصار رئيس القضاء بحكم منصبه رئيسا للمحكمة العليا وفي حالة غيابه ينوب عنه أكبر أعضاء المحكمة العليا سنا وهذه الجزئية الأخيرة هي التي تغيرت فيما بعد[42] وبالنسبة لوظيفة المفتي فقد كان آخر من شغلها هو الشيخ صديق أحمد عبد الحي يرحمه الله حيث صارت وظيفة المفتي جزءً من اختصاصات مجلس الإفتاء الشرعي، ولعلها آخر وظيفة تنفصل عن القضائية وتصبح ذات شخصية اعتبارية قائمة بذاتها. وأخيرا ألغيت وظيفة الإفتاء الشرعي وأصبحت دائرة الإفتاء في مجمع الفقه الإسلامي تقوم مقامها.

هذا من جهة رئاسة الهيئة القضائية، أما من جهة تكوين المحاكم وتشكيلها فقد بقيت على الحال التي نظمها بها الانجليز في عام 1915م حيث نصت المادة (5) من قانون المحاكم لسنة 1915م على إنشاء محكمة عليا مركبة من:

  • محكمة الاستئناف
  • محاكم ذات اختصاص ابتدائي

وبتاريخ 11/5/1967م صدر قانون محكمة الاستئناف المدنية العليا وقانون محكمة الاستئناف الشرعية العليا، وتتكون الأولى من رئيس القضاء وستة قضاة يكونون أعضاءها، وتتكون الثانية من قاضي القضاة وستة قضاة يكونون أعضاءها، المادة (3) من كل قانون.

بتاريخ 3/6/ 1972م تم تغيير ذلك الشكل فصار ترتيب المحاكم وفقا لقانون السلطة القضائية لسنة 1972م كالآتي:

م/6(1) تتكون المحاكم من:

  • المحكمة العليا.
  • محكمة الاستئناف.

م/9/ (1) تتكون المحكمة العليا من رئيس ونائبين للرئيس وعدد كافٍ من القضاة.

م/14 تتكون محكمة الاستئناف من رئيس وعدد كافٍ من القضاة.

وقد أنشئ نظام الدوائر كما أنشئ مجلس القضاء العالي وصار نائب رئيس القضاء هو رئيس محكمة الاستئناف وقد كانت واحدة ومقرها مدينة الخرطوم، لكنها بعد صدور دستور السودان لسنة 1973م وصدور قانون الهيئة القضائية 1973م نص على تعدد محاكم الاستئناف.

م/5 تتكون المحاكم من:

  • المحكمة العليا.
  • محاكم الاستئناف

م 10/ (1) تنشأ محاكم الاستئناف بأوامر يصدرها رئيس الجمهورية ويكون مقر محاكم الاستئناف عواصم المديريات.

وبتاريخ 1/7/1982م صارت الهيئة القضائية تتكون من: –

  • المحكمة العليا.
  • الأجهزة القضائية.

وقد نشأ في كل إقليم جهاز قضائي يحتوي على محكمة استئناف ومحاكم أدنى، وقد بقي هذا النظام حتى يومنا هذا….

المحور الثالث: استقلال القضاء وضمانات تحقيقه:

استقلال القضاء هو جوهر نظرية الفصل بين السلطات، بمعنى أن انفصال السلطتين التشريعية والتنفيذية عن بعضهما، لا يشكل ضمانة كافية لحقوق وحريات الأفراد، لأن إصدار التشريع مرحلة يعقبها بالضرورة تطبيقه ليدخل دائرة الإلزام الفعلي. فإذا ما اندغم الجهاز المسئول عن التطبيق مع أي من الجهازين الآخرين ــ وهما بطبيعتهما غير محايدين ــ يتحول الوضع لوضع استبدادي شامل ([43]).

خلال الحقب التاريخية المتعاقبة نصت كل الدساتير والتشريعات السودانية على أن تكون ولاية القضاء في جمهورية السودان لسلطة مستقلة تسمى “السلطة القضائية” وتكون السلطة القضائية مسئولة مباشرة لدي رأس الدولة عن أداء أعمالها. وتكون للسلطة القضائية ميزانيتها المستقلة. ولكن في الحقب التي يعطل في الدستور بسبب الانقلابات العسكرية؛ ينتهك مبدأ استقلال القضاء ويحجم دوره بما يخدم أغراض النظام، وعادة ما تُكَوَّن محاكم استثنائية ومحاكم خاصة لقضايا في العادة لا يعتبرها الدستور أفعالاً مجرمة.  

في الحقب التاريخية التي كان الدستور يمثل القانون الأسمى؛ نُصَّ على استقلال القضاء. جاء ذلك في دستور السودان لسنة 1956م تحت عنوان (استقلال القضاء) في (المادة/9) وفي دستور 1964م بعنوان (استقلال القضاء). وأيضاً (المادة/9) حيث نص فيها على أن: السلطة القضائية مستقلة وليس لأي سلطة حكومية، تنفيذية كانت أو تشريعية، حق التدخل في أعمالها أو الرقابة عليها. وفي دستور 1998م في الفصل الأول بعنوان سلطة القضاء فقد نصت (المادة/99) على أنّ : ولاية القضاء في جمهورية السودان لهيئة مستقلة تسمى السلطة القضائية، وتتولى سلطة القضاء فصلاً في الخصومات وحكماً فيها وفق الدستور والقانون، كما نصت (المادة/101) من ذات الدستور على أنه:

  1. القضاة مستقلون في أداء واجباتهم، ولهم الولاية القضائية الكاملة فيما يلي اختصاصهم، ولا يجوز التأثير عليهم في أحكامهم.
  2. يهتدي القاضي بمبدأ سيادة الدستور والقانون، وعليه حماية هذا المبدأ متوخياً إقامة العدل بإتقان وتجرد دون خشية أو محاباة.
  3. على أجهزة الدولة تنفيذ أحكام القضاء.

 أما في الدستور الحالي الدستور الانتقالي لسنة 2005م فقد نُصَّ في (المادة 123) على أن:

  1. تُسند ولاية القضاء القومي في جمهورية السودان للسلطة القضائية القومية.
  2. تكون السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية ولها الاستقلال المالي والإداري اللازم.
  3. ينعقد للسلطة القضائية القومية الاختصاص القضائي عند الفصل في الخصومات وإصدار الأحكام وفقاً للقانون.
  4. يكون رئيس القضاء لجمهورية السودان رئيساً للسلطة القضائية القومية ورئيساً للمحكمة القومية العليا، ويكون مسئولاً عن إدارة السلطة القضائية القومية أمام رئيس الجمهورية.
  5. على أجهزة الدولة ومؤسساتها تنفيذ أحكام وأوامر المحاكم.
تقرير عن  موقف مشروع  حوسبة العمل القضائي 

وهذا هو نص الدستور؛ علماً بأن القاعدة الذهبية هي أن جميع التشريعات ينبغي أن تأتي متماشية مع الدستور؛ ومن ذلك نخلص إلى أنَّ التشريعات السودانية الدستورية جميعها تدعو لاستقلال القضاء وتنص عليه، وتعهد بولاية القضاء وإدارته للقضاة فقط.

وجاء قانون السلطة القضائية لسنة 1986م تعديل 2015م ونُصَّ على هذا الاستقلال في (المادة/8) وذلك على النحو الآتي:

(1) تكون ولاية القضاء في جمهورية السودان لسلطة مستقلة تسمى، “السلطة القضائية”.

(2) تكون السلطة   القضائية   مسئولة مباشرة لدى   رئيس الجمهورية عن أداء أعمالها.

(3) تكون للسلطة القضائية موازنتها المالية ويصدر بها قرار من رئيس الجمهورية بناءً على توصية من المفوضية القومية للخدمة القضائية.

وقد فصلت بعد ذلك لوائح السلطة القضائية ووضعت ضوابط لضمان الاستقلالية، وخاصة لائحة تنظيم العمل القضائي لسنة 1996م ونموذج ذلك ما جاء في (م/12) بأنه: على القاضي أن يتوخى في جميع الأوقات العدالة والنزاهة وأن يكون عفيفاً ووقوراً وأن يلتزم في سلوكه بكل ما يعلي همته ويحفظ كرامته ويصون سمعته وسمعة القضاء وأن يبتعد تبعاً لذلك عن كل ما يشينه أو يحط من قدر منصبه أو يشكك في عمله وأمانته ونزاهته أو يشين القضاء ([44]). وتلك الضوابط والآليات تمثلت في الآتي:

  • التشريعات السودانية واستقلال القضاء:

القضاء سلطة يناط بها العمل على احترام وسيادة القانون وتطبيق قواعده، فصلاً في الخصومات والمنازعات، إذ الخصومة والتنازع من لوازم البشر، ودور القضاة ليس مجرد تطبيق وإنفاذ القانون وإنما حماية النظام القانوني.

والعدالة هي أساس الحكم وقوامه، فحين تؤدي على الوجه الحسن، يحس الناس بقدسيتها وإجلالها وحماية الدولة لهم.

أحاط التشريع العمل القضائي بكثير من الضمانات والإجراءات التي يبتغي بها أن تكون المحاكمات عادلة ومنصفة، كما جعل للقاضي حصانة في عمله وقضائه إلا إذا تعمد الجور ومخالفة القانون أو أتى خطأ جسيما فإنه لامحالة يكون عُرضة للمساءلة الإدارية وربما لرفع الحصانة عنه بقرار الجهة صاحبة ولاية أمره. ويقدم للقضاء فإما أن تبرأ ساحته أو يدان، ولكل حالة أثرها في الجزاءات الإدارية التي ستطاله وربما عزله من المنصب، كما أن الدولة تضمن التعويض عند مسئوليته التقصيرية في الأخطاء  اليسيرة التي تسبب أضرارا للغير، فالخطأ الفاحش من القاضي في عمله لا ينبغي أن يقع وإذا وقع فلا ينبغي أن يعفى القاضي من تحمل تبعته أو أن يحال بين الأفراد ومقاضاته، هذا في حالة الخطأ المهني الجسيم وهو الخطأ الذي ينطوي على أقصى ما يمكن تصوره من الإهمال في أداء الواجب ــ حينئذ ــ تجوز مخاصمة القاضي لانحرافه في عمله عما يقتضيه القانون قاصداً ذلك، إما إيثاراً لأحد الخصوم أو نكاية فيه أو تحقيق مصلحة خاصة له, وبعبارة أخرى يمكن تعريف خطأ القاضي المهني الجسيم بأنه “الخطأ الفادح الذي يرتكبه القاضي بوقوعه في غلط ما كان يساق إليه لو اهتم بواجباته الاهتمام العادي, أو لإهماله في مهنته إهمالاً مفرطاً وبحيث لا يكون يتصور وقوع ذلك  كالخطأ إلا من عامد أو مسًتهتر.

والأصل هو عدم مسئولية القاضي عما يصدر من تصرفات في عمله لأنه مخول سلطة بالقانون ــ سلطة تقديرية ــ والاستثناء وهو ما سلف بيانه، ولا يجوز لأي جهة أو هيئة إملاء ما تريده على المحكمة إزاء دعوى منظورة أمامها.

كما أن من يملك تعيين القاضي يملك سلطة عزله ولكن لا يجوز العزل بعد تعيين إلا حال قيام ما يستوجب العزل كثبوت خيانة أو جناية أو مخالفة لأصول وقواعد العدالة (إنكار العدالة) ــ من حياد أو نزاهة ــ وكذلك يجوز عزله إذا كان هناك من هو أفضل منه وأقوى علماً وفهماً ولا يعتبر منعزلاً إلا بعد علمه بقرار العزل (الإحالة للتقاعد بالمعاش أو فصله) فتكون الأحكام التي أصدرها في الفترة ما بين قرار ولي الأمر بالعزل وعلمه بذلك نافذة.

ولم يكن في القضاء الإسلامي سن معينه يتقاعد عندها القاضي كما هو الحال في القوانين الوضعية الآن، وإنما كان القاضي يظل في عمله إذا كان قادراً على الأداء، وذلك حتى يعجز ولا يستطيع ممارسة عمله، فقد ظل القاضي شريح يشغل منصب القضاء لمدة (78سنة) وعاش إلى (120سنة) رحمة الله عليه.

إذن استقلال القضاء يسهم بقدر وافر في  مناخ الحرية والعدالة والاستثمار الاقتصادي، ولذلك كان من المبادئ المهمة في منظومة العدالة ومؤسساتها، وقد كان الفقه الإسلامي أسبق في تضمين هذا المبدأ في القواعد والنظم القانونية، والقضاء في الإسلام بطبعه مستقل وهو مبدأ اقتضته العدالة،  ومن قديم ظل القضاء محط المهابة والقدسية، يقول في هذا الشأن الدكتور يعقوب السعيدي  (استقلال القضاء لا يستمد وجوده من إعلانات حقوق الإنسان ولا من نصوص الدساتير، وهو اسبق في الوجود من كل نص أو قانون, فهو يستمد من مبادئ العدالة ذاتها، التي تكره التمييز والظلم، وهو حق أصيل للإنسان، فإذا نصت عليه أحكام الدستور فإنما لتؤكده وتصونه.. وإذا لم تنص عليه فلا يجوز إهداره ولا إنكاره، لأن مبدأ استقلال القضاء أصبح جزءاً من الضمير الإنساني…) ([45]).

ويشير إلى أهمية هذا المبدأ في القضاء د. عبد الرحمن شرفي إذ يقول: (مبدأ استقلال القضاء، وهو أكثر العناصر أهمية في تحصيل التوازن النفسي، وهو مبدأ صادر عن معين النظام الإسلامي..) ([46]).

فالقضاة هُم مشاعل نور ومصابيح تنير طريق الحق وتعلنه حكما ملزماً (الحقيقة القضائية), وحصون حصينة تمنع الظلم والتجاحد وتكبته، ذلك إنهم ينوبون في الأحكام عن ولي الأمر، حاكم الولاية الكبرى، خليفة الله في أرضه،  فيجب أن تتوافر لهم الضمانات التي تكفل حمايتهم، وتحقق استقلالهم وتضمن حيدتهم، وكذا أشرنا إلى هذه المعاني ومتطلبات استقلال القاضي، وتأهيله وتحصيله العلمي وآدابه التي تزينه وتكلل هامته، وترتقي بمقام منصة القضاء، إذ تقتضي الأمانة والعدالة في القاضي أن يكون صادق اللهجة، ظاهر الأمانة، عفيفاً عن المحارم، متوقياً المآثم بعيداً عن الريب، مأموناً في الرضا والغضب، مستعملاً المروءة مثله في دينه ودنياه.

حرصت القوانين الدولية ــ العالمية ــ  على استقلال القضاة، ودعم تكوينه الفني، ومن هذه المواثيق الإعلان العالمي لاستقلال القضاء الصادر عن مؤتمر مونتريال (بكندا) سنة 1983، وإعلان ميلانو (بإيطاليا) سنة 1985 الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة السابع لمنع الجريمة، كما جاء النص على استقلال القضاء في (المادة/8) من مبادئ الأمم المتحدة الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية والمعتمدة في الجمعية العامة للأمم المتحدة إن النظام القضائي الإسلامي قد تطور وتجددت سبل التقاضي متناغمة مع تجارب النظم القانونية والقضائية الأخرى آخذاً من محاسن وسمات المدرستين الأنجلو سكسونية (البريطانية) واللاتينية (الفرنسية) من باب فقه المصلحة المرسلة، فإنه أينما وجدت المصلحة للمسلمين، والنفع العام فإن جلبها واعتمادها أمر واجب ومطلوب”([47]).

وفي السودان اهتمت الدساتير السودانية المتعاقبة ــ بلا استثناء ــ بالنص على مبدأ استقلال القضاء؛ بدءاً من اتفاقية الحكم الذاتي وتقرير المصير لسنة 1953م مروراً بدستور السودان المؤقت المعدل لسنة 1964م (المادة/9) ثم دستور السودان الدائم لسنة 1973م (المادة/185)، ودستور السودان الانتقالي لسنة 1985م (المادتين 121/122)، ودستور السودان لسنة 1998م (المادة/99) فقد نصت كلها على أن ولاية القضاء في السودان؛ تناط بجهة مستقلة تسمى السلطة القضائية؛ تتولى الفصل في الأقضية وفقاً للدستور والقانون؛ وبأن القضاة مستقلون في أداء واجباتهم القضائية، ولا سلطان عليهم إلا حكم القانون([48])؛ ونص دستور السودان الانتقالي لسنة 2005م في (المادة/123) على أن:

  1. تسند ولاية القضاء القومي في جمهورية السودان للسلطة القضائية القومية.
  2. كون السلطة القضائية مستقلة عن الهيئة التشريعية والسلطة التنفيذية ولها الاستقلال المالي والإداري اللازم.
  3. ينعقد للسلطة القضائية القومية الاختصاص القضائي عند الفصل في الخصومات وإصدار الأحكام وفق القانون.
  4. يكون رئيس القضاء لجمهورية السودان رئيسا للسلطة القضائية القومية ورئيسا للمحكمة العليا القومية، ويكون مسئولا عن إدارة السلطة القضائية القومية أمام رئيس الجمهورية.
  5. على أجهزة الدولة ومؤسساتها تنفيذ أحكام وأوامر المحاكم.

وقد وضعت ضمانات لاستقلال القضاء تتمثل في عدم التأثير على القضاء في إصدار الأحكام، وكفالة الأمن الوظيفي؛ فلا يعزل القاضي إلا لأسباب نص عليها الدستور وبتوصية من رئيس القضاء وموافقة رئيس الجمهورية؛ وأيضا من ضمانات استقلال القضاء كفالة الراتب المجزي للقضاة؛ هذه الضمانات نصت عليها (المواد132/2 و128/1 و131/2) من دستور السودان الانتقالي لسنة 2005م.

 (ب) آليات ضمان تحقيق الاستقلالية في النظام القضائي السوداني:

 وضع المشرع السوداني عدة آليات تساعد على ضمان استقلالية القضاء هي:

أولاً: المفوضية القومية للخدمة القضائية:

سابقاً كانت تسمي مجلس القضاء العالي والذي تم إنشاؤه بموجب قانون السلطة القضائية لسنة 1972م، ورئيس القضاء هو رئيسه ورئيس المحكمة القومية العليا، وتقوم الأمانة العامة لمجلس القضاء العالي برئاسة أحد قضاة المحكمة القومية العليا بتسيير أعماله. وحلت المفوضية القومية للخدمة القضائية في العام 2005م محل مجلس القضاء العالي وذلك على إثر اتفاقية السلام الشامل والدستور الانتقالي لسنة 2005م؛ وقد نصت (المادة129)/1/2/3 من الدستور الانتقالي 2005م على إنشاء المفوضية القومية للخدمة القضائية وهي تتولى الإدارة العامة للقضاء القومي ويحدد القانون تكوينها ومهامها علما بأن أعضاء المفوضية القومية للخدمة القضائية هم سعادة رئيس القضاء وهو رئيس المفوضية بحكم منصبه و تضم في عضويتها السادة نواب رئيس القضاء ووزير العدل ووزير المالية ورئيس اللجنة القانونية بالمجلس الوطني ورئيس اللجنة القانونية بمجلس الولايات وعميد كلية القانون بجامعة الخرطوم وممثل نقابة المحامين وثلاثة أعضاء من ذوي الخبرة والكفاءة يعينهم رئيس الجمهورية .ومن الناحية العملية فوجود الأعضاء من خارج السلطة القضائية يكون لمجرد التنسيق وتسيير عمل المفوضية.

ثانياً: الأمانة العامة لشؤون القضاة:

    يُعيَّن رئيس هذه الإدارة {الأمين العام} بقرار من رئيس القضاء وهو قاضى محكمة قومية عليا وتضم عدداً من القضاة والعاملين وهي الإدارة المعنية بالاهتمام بالقضاة وتسيير كل معاملاتهم بداية من استكمال إجراءات توظيفهم مروراً بالتدريب والتأهيل ورعاية أحوالهم وعلاجهم وإدارة حقوقهم وواجباتهم ومتابعة أعمالهم وإحصائها وتقييمها بشفافية وعدالة وتسوية معاشاتهم وحقوقهم عند انتهاء خدماتهم القضائية للأسباب المختلفة. وتضم أقساماً، منها قسم شؤون الأفراد الذي يختص بالإجراءات الخاصة باستكمال إجراءات تعيين السادة القضاة وعلاواتهم ومتابعة تنفيذ نقلهم وتطبيق إجراءات ترقياتهم وإجازاتهم وما يتفرع من ذلك من شؤون خاصة بالقضاة. والقسم الثاني الإدارة العامة: وتختص بالإجراءات الفنية والتطبيقية لقرارات سعادة رئيس القضاء لندب القضاة وإعارتهم. وقسم ثالث هو الميزانية والسجلات وهو يهتم بحفظ السجلات الخاصة بالمعلومات المتعلقة بالقضاة من تاريخ تعيينهم وحتى تقاعدهم بالمعاش وحفظ أسبقياتهم وإعداد ميزانية الفصل الأول من مرتبات وتعويضات القضاة. وأخيراً إدارة معاشات القضاة وهي الإدارة التي تختص بتسوية معاشات القضاة ومتابعة الإجراءات الفنية لكل ما يتعلق بمعاشات القضاة من استقطاعات وتعديلات واستبدال وخلافه.

وبهذا يتضح أن جميع شؤون القضاة بالسودان تدار بواسطتهم لضمان حسن سير القضاء باستقلالية وقد ثبت نجاح ذلك على مر العصور.

 ويتمتع القضاة بحصانة نصت عليها (م/70) من قانون السلطة القضائية لسنة 1986م بأنه: لا يجوز القبض على القاضي أو حبسه أو اتخاذ أيٍ من إجراءات التحقيق معه أو رفع دعوى جنائية ضده إلا بإذن من رئيس القضاء أو رئيس الجهاز القضائي المختص أو أقرب قاضٍ أعلى درجة منه.

ثالثاً: إدارة التفتيش والرقابة القضائية:

تتكون إدارة التفتيش والرقابة القضائية من قسم التفتيش القضائي وقسم الرقابة القضائية، وتختص إدارة التفتيش والرقابة القضائية بالآتي:

  1. تفتيش أعمال السادة القضاة بمختلف درجاتهم لتقدير كفاءتهم بصورة دورية ودائمة.
  2. تقديم المقترحات التي تراها ضرورية لتحسين الأداء من واقع التفتيش والرقابة. 
  3. الرقابة على أعمال القضاة لمعرفة مدي حرصهم على أداء واجبات وظيفتهم.
  4. التحقيق في الشكاوى التي تقدم ضد القضاة والفصل فيها عبر الوسائل المختلفة التي تؤدي لإنجاز الغرض المطلوب.
  5. تقديم مقترح تكوين لجان الفصل في التظلمات المقدمة من السادة القضاة.
  6. دراسة الطلبات التي تحال إليها من المفوضية أو رئيس القضاء الخاصة بالقضاة والعمل القضائي ورفع توصيات بشأنها.
  7. إحاطة القضاة بنتائج التفتيش، لتقويم أدائهم، وحفظ الخلاصة بالطرق المعمول بها في هذا الشأن.
  8. إعداد الملفات السرية لجميع القضاة لتوضع فيها تقارير الأداء والتفتيش وأي إجراءات أخري تتخذ ضد القاضي، وأي معلومات من شأنها أن تعين على تكوين رأي صحيح عن القاضي.
  9. تقديم مقترح التوصية بشأن ترقية القضاة، أو إنهاء أو انتهاء خدمتهم.

وينظم العمل في هذه الإدارة لائحة تفتيش القضاة وتقويم أدائهم لسنة 2015م والتي تتضمن صلاحيات لجان التفتيش والتقويم وإجراءات التفتيش وتقويم الأداء الموضوعي وتقويم تقرير الرئيس المباشر وتقويم الإحصاء والمخالفات الإدارية، والآثار المترتبة على التقويم والترشيح للترقي.

رابعاً: المحكمة القومية العليا:

تعتبر المحكمة القومية العليا قمة الهرم القضائي في السلطة القضائية ويرأسها رئيس القضاء ومقرها الخرطوم ولها دوائر فرعية في كل من بورتسودان واختصاصها ولاية البحر الأحمر وكسلا، ودائرة ودمدني واختصاصها ولايات القضارف ــ الجزيرة ــ سنار ــ النيل الأزرق والنيل الأبيض، ودائرة الأبيض واختصاصها ولايات كردفان؛ وعدد قضاتها مائة قاضٍ وقراراتها نهائية. وتصدر قراراتها في شكل دوائر مدنية ــ جنائية ــ وتجارية ــ وشرعية ــ وإدارية لنظر الطعون الإدارية الخ.

 وقد ورد اختصاص المحكمة القومية العليا في (المادة 125/1) من دستور جمهورية السودان الانتقالي لسنة 2005م والذي نص بأن تكون المحكمة القومية العليا:

  1. محكمة نقض ومراجعة فيما يتعلق بالمسائل الجنائية والمدنية والإدارية التي تنشأ عن القوانين القومية أو بموجبها ومسائل الأحوال الشخصية.
  2. ذات اختصاص جنائي على قضاة المحكمة الدستورية.
  3. مسئولة عن مراجعة أحكام الإعدام التي تصدرها أي محكمة في القضايا الناشئة عن القوانين القومية أو بموجبها.
  4. أي اختصاص آخر يحدده الدستور والقانون.

وإذا نظرنا إلى الناحية العملية فإن إنفاذ مبدأ “سيادة القانون” يظهر جلياً في أحكامها ونقدم بعض أحكام المحكمة القومية العليا الدالة على استقلالية القضاء السوداني:

(1) قضية (لجنة جامع الخليفة عبد الله /ضد/ معتمد العاصمة القومية):

أصدر معتمد العاصمة القومية ــ الخرطوم ــ قراراً إدارياً بتكوين لجنة لإدارة مسجد الخليفة عبد الله بأم درمان دون إخطار اللجنة المعتمدة من الشؤون الدينية والأوقاف، وقد نعى الطاعنون بأن معتمد العاصمة القومية لا يملك الحق في ذلك وبأن في فعله إساءة لاستعمال السلطة، فأصدرت المحكمة العليا السودانية حكمها بإلغاء القرار الصادر من معتمد العاصمة القومية.

(2) قضية (التجاني محمد جعفر /ضد/ رئيس الجمهورية) رقم القضية (م ع/ط م/20/1997م):

كان الطاعن ــ التجاني محمد جعفر ــ يعمل في وظيفة مسجل بجامعة أم درمان الإسلامية؛ بتوصية من مجلس الجامعة ثم من وزير الدولة بوزارة العمل والإصلاح الإداري، أصدر مجلس الوزراء قراره رقم (506/1995م) بإحالة الطاعن مع آخرين للتقاعد بالمعاش وبإلغاء الوظيفة استناداً لنص (المادة50/د) من قانون الخدمة المدنية ــ بعد دراسة وجوه الطعن أصدرت المحكمة العليا حكمها بإلغاء القرار

(3) قضية جوزيف قرنق وعز الدين علي عامر/ضد/ مجلس السيادة “رئاسة الجمهورية الآن” الجمعية التأسيسية “البرلمان” النائب العام:

في يوم 22/11/1965م أجاز البرلمان السوداني بالإجماع تعديلات في دستور السودان المؤقت المعدل في سنة 1964م بإضافة حكم شرطي لنص (المادة5/2) من الدستور المذكور وكان مفاد التعديل هو منع الترويج للفكر الشيوعي سواء كان محلياً أو دولياً، ومنع الترويج للإلحاد ومنع السعي لقلب نظام الحكم بأي وسيلة غير مشروعة. كما أجاز البرلمان في ذات التاريخ إضافة حكم شرطي في بند جديد بعد البند {2} من (المادة5)-مفاده عدم مشروعية أي منظمة تنطوي أهدافها أو وسائلها على مخالفة الحكم الشرطي المضاف بالبند {2} على أن يكون للبرلمان إصدار أي تشريع يراه لازماً لتنفيذ أحكام ذلك النص المضاف وبالفعل أصدر البرلمان في يوم 8/12/1965م تعديلاً (للمادة46) من ذات الدستور المذكور، يقضي بعدم أهلية الأشخاص الذين تنطبق عليهم التعديلات المضافة بالأحكام الشرطية لعضوية البرلمان، فسقطت ــ بحكم الدستور ــ عضوية أعضاء الحزب الشيوعي في الجمعية التأسيسية (البرلمان)، وطرد من البرلمان كل من: محمد إبراهيم نقد، وعز الدين على عامر، وحسن الطاهر زروق، وعمر مصطفى المكي، والرشيد نايل، وعبد الرحمن الوسيلة وجوزيف قرنق، والطاهر عبد الباسط. لم يستسلم الحزب الشيوعي لذلك المصير، بل رفع دعوى دستورية أمام الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا وفي وقتها لم تكن هناك محكمة دستورية مستقلة كما هو اليوم ــ فأصدرت المحكمة العليا ــ الدائرة الدستورية حكمها في 22/12/1966م بتقرير بطلان التعديلات الدستورية. فقام رئيس مجلس السيادة الزعيم إسماعيل الأزهري بالتعقيب على الحكم الدستوري بكلمات مفادها عدم اختصاص المحكمة العليا في النظر فيما تصدره الجمعية التأسيسية (البرلمان) من تعديلات دستورية. وعلى إثر حديث رئيس مجلس السيادة قدَّم رئيس القضاء السوداني (بابكر عوض الله) استقالته باعتبار أن ما صدر من رئيس مجلس السيادة يعتبر انتهاكاً لمبدأ استقلال القضاء ([49]).

المحور الرابع: إدارة القضاء في السودان بين المركزية والإقليمية:

القاضي وحده لا يؤدي الدور المطلوب، فهنالك جنود مجهولون يقومون بأدوار لا تقل عن دور القاضي فكل ميسر لما خلق له. وأعوان القضاة هم مجموعة من أهل الاختصاص والخبرة فيما يوكل إليهم من أمور متعلقة بعملية التقاضي، ووظيفتهم مساعدة القاضي ومساندته ومعاونته علي حسن سير العملية القضائية للوصول للعدل المنشود ([50]).

وعليه فقد أنشئت إدارة المحاكم في السلطة القضائية السودانية لتعني بحسن سير الأداء المالي والإداري في رئاسة السلطة القضائية، وفي الأجهزة الإدارية التابعة للأجهزة القضائية الولائية، وتتكون من إدارة اتحادية برئاسة السلطة القضائية، وإدارات ولائية تشرف على العمل الإداري والمالي في الأجهزة القضائية الولائية.

وقد تم إنشاء هذه الإدارة بموجب قانون السلطة القضائية لسنة 1986م (المادة81) والتي تنص على الآتي: (81) (1) ينشأ جهاز إداري يسمى إدارة المحاكم ويكون تابعاً لرئيس القضاء ومسئولا لديه، ويتولى رئاسته من يعينه رئيس القضاء من بين قضاة المحكمة العليا أو محاكم الاستئناف) تحدد اللوائح كيفية تكوين إدارة المحاكم واختصاصاتها وتنظيم العلاقة بينها وبين الأجهزة الإدارية التابعة للأجهزة القضائية ([51]). 

وتتكون أقسام إدارة المحاكم الاتحادية من الشؤون الإدارية ومهمتها توفير الأثاثات، والمعدات الخاصة بالمكاتب، وصيانة المباني والكهرباء والمياه، وكذلك الإعلانات بالطرق الدبلوماسية. ثم الشؤون المالية؛ وتقوم بإعداد المقترحات السنوية ورفعها للسلطات المختصة العليا لاعتمادها، وتتولى كيفية تنفيذها. وشؤون العامليـن وتهتم بالتعيين والترقي والنقل وفوائد ما بعد الخدمة، وتتكون من قسم التوظيف (موظفين وعمال)، وهناك القسم العمومي، وقسم الإجازات، والقسم السري، وقسم المعاشات، ثم التفتيش الإداري ويهتم بتفتيش أعمال الموظفين بجميع أنحاء السودان؛ لتقييم الأعمال وتقويم الأداء. وإدارة التنمية وهذه تهتم بالإنشاءات الجديدة من ناحية التعاقد ومتابعة التنفيذ وخلق بيئة العمل؛ لأنها جزء من تهيئة الجو للعمل القضائي، وقد تحدث الفقهاء كثيراً عن مكان المحاكمة وعن موضع جلوس القاضي، لسهولته للناس، يتوسط البلد، كي لا يؤدي لملل القاضي، ويظهر هيبة القضاء. ثم إدارة النقـل والترحيــل وهي تهتم بالعربات والصيانة والإسبيرات والمواد البترولية وكذلك توزيع العربات على القضاة والقياديين وغير ذلك.

ويتضح من هذا أن إدارة المحاكم تمثل الإدارة التنفيذية والإدارية للسلطة القضائية والتنسيق للربط بين الرئاسة الاتحادية والأجهزة القضائية الولائية. ويترأس إدارة المحاكم قاضي محكمة عليا وينوب عنه قاضي استئناف، ويوجد مدير عام لإدارة المحاكم ومدير لكل إدارة من الإدارات المذكورة ([52]).

الخاتمة:

القضاء في السودان مر بمراحل متعددة لكل مرحلة خصائصها ومتطلباتها؛ ويمكن أن نقول في خاتمة هذا البحث أن النظام القضائي في السودان تميز بالخصائص الآتية ([53]):

  1. المرونة: تتضح المرونة بصفة عامة فيما يخوله التشريع (الدستور والقانون) لرئيس القضاء من إصدار منشورات قضائية ضمانا لحسن سير العدالة، ترسيخا لما استقرت عليه التشريعات السودانية، ونص دستور السودان الانتقالي لعام 2005م في (المادة158) تخويل رئيس القضاء إصدار منشورات قضائية لضمان إعمال أحكام (المادة156) من ذات الدستور ولإرشاد المحاكم إلى كيفية مراعاة المبادئ المقررة لتصريف العدالة بالعاصمة القومية؛ علما بأن المنشورات التي يصدرها رئيس القضاء بهذا التفويض الدستوري؛ تأخذ حجية القانون في الإلزام.

أما بالنسبة للنصوص القانونية فهناك (المادة212) من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991م التي تخول لرئيس القضاء إصدار قواعد من شأنها إرشاد القضاة في المسائل القضائية. كذلك نص قانون أصول الأحكام القضائية لسنة 1983م في (المادة3/خامسا) على استرشاد القاضي بالسوابق القضائية، وجاءت (المادة2/6) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م بصيغة آمرة ــ بأن يطبق القاضي المبادئ التي استقرت قضاءً في السودان عندما لا يكون هناك نص تشريعي للمسألة. ومن مظاهر المرونة إعمال العرف وقد أحالت إلى أعماله (المادة2/5) من دستور السودان الانتقالي لسنة 2005م وكذلك قانون أصول الأحكام القضائية وقانون الإجراءات المدنية وقانون المعاملات المدنية وقانون الأحوال الشخصية.

وهذا التوسع في مرجعية العرف يجعل من القاضي السوداني خبيرا مكينا في معرفة أحوال الناس، حيث أن العرف يدخل في معنى (العلم القضائي).

  • الحياد المطلق: نصت (المادة14) من لائحة تنظيم العمل القضائي لسنة 1996م على الشروط والآداب التي يجب أن تتوفر في القاضي والقيود المفروضة عليه؛ تكاد تكون ترجمة حرفية لرسالة سيدنا عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري بشأن القضاء؛ كما نصت المادة على أنه لا يجوز للقاضي إفشاء أي معلومات وقف عليها بسبب مهنته، كما حرمت عليه وعلى أفراد أسرته قبول أي هدية من الخصوم أو ذويهم، كما حرمت عليه ممارسة التجارة، كما منعته من الاعتياد على الاستدانة نأياً عن الشبهات. 
  • الصلح والعفو: لقد اهتم الإسلام بمبدأ العفو والإصلاح بين الناس في كثير من آيات القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة؛ كما أن المزاج السوداني يميل إلى العفو والتسامح؛ وعليه فقد خولت المرجعية التشريعية للقضاء السوداني أولوية السعي بالصلح عند نظر الدعاوي ابتداء أحيانا وبعد تمام الثبوت أحيانا أخرى؛ حسبما يقتضيه نوع الدعوى؛ وهنالك لجان للصلح في بعض المحاكم ــ دوائر الأسرة ــ تشكل من ذوي الأهلية والمعرفة بأحوال الناس وأعرافهم، وهنالك من الصلح ما يناط بالقاضي، وأصل إباحة الصلح والعفو في تلك الدعاوي؛ هو اشتراك الحقوق فيها والحق الخاص فيها أغلب. ويولي القضاء السوداني أولوية للمرجعيات السودانية عند نظره للأقضية يعينه في تفعيلها الموروث الثقافي لأطياف الأمة السودانية؛ حيث تتحلى جميعها بقيم الإيثار والمروءة والشهامة، وذلك ما يضفي تميزاً لفلسفة الصلح والعفو في السودان.
  • الخبرة التراكمية في ترسيخ قواعد العدالة المجتمعية: “تسوية النزاعات القبلية” أفاد الانجليز من الموروث السوداني المتجذر، في مجال العدالة المجتمعية، مدركين أهميتها في حل النزاعات والفصل فيها، لاستقرار المجتمع السوداني، المكون من الأعراق المختلفة، والقبائل المتعددة المتنافسة على الموارد، أو المرعى أو الزراعة أو الاحتطاب؛ حيث قام قاضي المحكمة العليا (شارلس سيسل كمنجز) بتدوين مذكرة في عام 1939م حول قضية مشاجرة بين قبيلتي العميرية والمغاوير، أرشد فيها لبعض طرائق الفصل في النزاعات القبلية؛ فلما تولى رئاسة القضاء ــ والسكرتير القضائي ــ أصدر تعديلاً لمذكرته في سنة 1950م لتتناسب مع أصول التقاضي التي تعين على درك حقائق الوقائع بأفضل السبل، ثم أصدر في 15/6/1952م منشور المحاكم الجنائية رقم (18) وقد عني فيه بالتوجيه بمراعاة الأعراف القبلية المتعلقة بالدية مع عدم الإخلال بأحكام قانون الإجراءات الجنائية، وذلك لإدراكه لما يتمخض عن ذلك المنهج من تطييب للخواطر.

لقد تواترت تطبيقات المحاكم السودانية للقواعد العرفية التصالحية بلوغاً إلى مفهوم العدالة المجتمعية أذكر منها السوابق الآتية:

(أ) النزاع القبلي بين قبيلة أولاد هيبان من المسيرية الزرق وقبيلة المتانين من المسيرية الفلايتة) وكان سببه تحرشات بين الرعاة من القبيلتين حول المرعى وموارد المياه، وأسفرت المعركة عن سبعة قتلى ثلاثة من قبيلة المتانين وأربعة من قبيلة أولاد هيبان.. فتحت دعوى مدنية برقم (/ ق م/ 110/2001م) وكلف قاضي المحكمة العامة بالفولة ــ ولاية غرب كردفان ــ بإرساء دعائم الصلح وصياغة مقرراته، حيث أنجز مهمته خلال أربعة أشهر فقط! وتم تنفيذ الصلح تحت رقم: 44/ 2001م وأقفلت ملفات التعويض وكافة مقررات الصلح بتمام التنفيذ في 21/10/2001م فعادت الحياة بين القبيلتين إلى صفائها.

( ب ) النزاع القبلي بين قبيلة الرزيقات في جنوب دار فور وقبيلة المسيرية بجنوب كردفان؛ حيث أسفر عن خمسين قتيلا وثمانية وعشرين جريحا فتحت الدعوى الجنائية برقم : ع إ/30/2007م في 26/5/2007م وبحضور عدد من أمراء قبيلة المسيرية وعُمَد قبيلة الرزيقات؛  أجري الصلح أمام قاضي المحكمة الجنائية العامة بالأُبَيِّض- عاصمة ولاية شمال كردفان – وكان من مقرراته عفو أفراد القبيلتين عن بعضهما عفوا خالصا، والتزامهم بعدم الثأر ، وبترسيم الحدود بين القبيلتين، وتسوية الديات والخسائر وفق الأعراف السائدة بما يرفع الغبن ويجبر الضرر ويطيب الخواطر؛ وسلمت مقررات الصلح إلى رئيس الجهاز القضائي بالأبيض الذي كلف قاضيا بتنفيذها على ضوء أحكام قانوني الإجراءات المدنية والجنائية.

( ج) وفي الدعوى الجنائية المرفوعة أمام محكمة الجنايات العامة بالأبيض ــ شمال كردفان ــ تحت رقم: (525/غ إ/ 2007م) تلخصت الوقائع الثابتة بقيام مجهول بسرقة خمسة رءوس من الضأن من قبيلة المجانين؛ فتتبع (الفزع) أي أفراد من هذه القبيلة أثر السارق والبهائم؛ لاسترداد المال المسروق، وخلال اقتفائهم للأثر هجم عليهم بعد أفراد قبيلة دار حامد، فأسفرت المعركة بين القبيلتين عن ستة وأربعين قتيلا، بواقع ثلاثة وعشرين قتيلا من كل قبيلة. كما أسفرت المعركة عن تسعة وعشرين مصابا من أبناء قبيلة دار حامد، وعن واحد وثلاثين مصابا من قبيلة المجانين.

سلكت المحكمة في إجراءات الدعوى على بصيرة من الأعراف المحلية، دون ما إغفال لأصول التقاضي؛ وقد أعانها على التسوية بعض أهل الحكمة من أعيان القبيلتين وآخرين من النافذة كلمتهم، فكللت الجهود بإخماد نار الفتنة، وبنزع ما في الصدور من الغل، وتم حصر الخسائر البشرية والمادية، مع الاستعانة بالخبرة الطبية في تقدير نسب العجز والأضرار البدنية، بلوغا إلى تقدير “حكومة العدل” ــ تعويضات الإصابات البدنية ــ فتم الصلح ودونت مقرراته بتبيان ما لكل قبيلة منهما من الحقوق وما عليها من الواجبات والالتزامات، وبتبيان كيفية إنفاذ مقررات الصلح. ولم يستغرق إنجاز هذا العمل سوى أقل من عام بقليل؛ وهي مدة قصيرة بالمقارنة لما تستغرقها مثل هذه الدعاوى وفقا لإجراءات العدالة الجنائية التقليدية، القابلة أحكامها للطعون بمختلف مراحلها، فضلا عما في هذا النوع من العدالة المجتمعية من تطييب الخواطر، بما يبعث الطمأنينة في المجتمع. 

  • الدرء والمسامحة: الإطار الفلسفي الذي شرعت في دائرته أصول التقاضي في دعاوى الحدود الشرعية هو “الدرء والمسامحة” والمقصود بالدرء هو دفع الحد بواسطة المتهم أو من تلقاء نفس القاضي ما كان ذلك ممكنا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: “دفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا”([54]) ومبدأ درء الحدود بالشبهات يعد ركيزة أساس في أصول المحاكمات الجنائية التي يعتمدها القضاء السوداني وصلا لموروثه الممتد منذ عصر النبوة إلى عصرنا الحاضر حيث تبلور ذلك المبدأ في النظم المعاصرة إلى قاعدة “تفسير الشك لصالح المتهم”

وأما المسامحة فتتضح في المنهج المخول شرعا للقاضي في تلقين الحجة للمتهم تعريضا ابتداءً ثم تصريحا؛ استحبابا للستر، فإن اعترف المتهم بالجرم الحدي، استحب للقاضي تلقينه الرجوع عن اعتر افه، ويكره التسارع في تدوين الإقرار القضائي في هذا المجال؛ بل يستأني به لجلسة أخرى، فإن تكرر وخلا من الشبهات قضى بمقتضاه وإلا فلا. وهذا هو المقرر فقها وقانونا وفقا لأحكام المادة (144/4) من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991م. ويتمخض عن إطار” الدرء والمسامحة” في أقضية الحدود الشرعية، تضييق دائرة التجريم بتلك الحدود، يتضح ذلك من منهاج الإكثار من تفصيلات عناصر أركان الجريمة الحدية، ثم الإكثار في تفصيلات إثبات وقائعها والإكثار من الشبهات الدارئة للحدود ومن مسقطاتها؛ والشيء كلما كثرت قيوده قل وجوده.

واستقراء الواقع التطبيقي يؤكد أن تلك القيود المتكاثرة تتيح للقاضي سلطة واسعة في الاستقصاء القضائي بمنهج الحياد الايجابي، يعينه على ذلك عنصران:

أولهما: قلة النصوص الآمرة التي تقيد حرية القاضي في الاستقصاء ــ في هذا المجال ــ

وثانيهما: ما هو مخول للقاضي من حرية كاملة في التحري والاستيثاق عن مدى توفر تلك الكثرة الكاثرة من العناصر والشرائط، ومدى انتفاء الشبهات الدارئة والمسقطات كافة.

  • التسامح الديني: نصت المادة (156) من دستور السودان الانتقالي لسنة 2005م على أنه ” دون المساس بصلاحية أي مؤسسة قومية في إصدار القوانين؛ يسترشد القضاة وأجهزة تنفيذ القانون عند تطبيق العدالة وتنفيذ أحكام القوانين السارية في العاصمة القومية بالآتي:

ــ يكون التسامح أساسا للتعايش بين السودانيين على اختلاف ثقافاتهم وأديانهم وأعرافهم.

ــ يعتبر السلوك الناشئ عن الممارسات الثقافية والأعراف الذي لا يسبب إخلالا بالنظام العام واحتقارا لأعراف الآخرين، ولا تكون فيه مخالفة للقانون، ممارسة للحريات الشخصية في نظر القانون.

ــ تراعي المحاكم عند ممارسة سلطاتها التقديرية في توقيع العقوبات على غير المسلمين؛ المبدأ الراسخ في الشريعة الإسلامية؛ أن غير المسلمين من السكان لا يخضعون للعقوبات الحدية المفروضة وتطبق عليهم عقوبات تعزيرية وفقا للقانون.

وإعمالا لمبدأ التسامح الديني وفقا لما هو مقرر بالمادة الآنفة الذكر فقد شرعت المادة (158) من ذات الدستور الفقرة(أ) بتخويل رئيس القضاء بإصدار منشورات قضائية لإرشاد المحاكم إلى كيفية مراعاة المبادئ المذكورة في المادة (156) من الدستور كما جاءت الفقرة (ب) منها بتخويل رئيس القضاء في إنشاء محاكم متخصصة لإجراء المحاكمات وفقا لتلك المبادئ، وقد طبق القضاء تلك المبادئ؛ ونشير هنا على سبيل المثال؛ ما قضت به المحكمة العليا السودانية في قضية “حكومة السودان ضد (م.ر.م.)” إذ قالت: بالرغم من أن نص المادة (5/3) من القانون الجنائي لسنة 1991م يستثني الولايات الجنوبية فقط من تطبيق الجرائم الحدية؛ إلا أن المادة(156/د) من الدستور الانتقالي لسنة 2005م منعت توقيع العقوبة الحدية على غير المسلمين من السكان في العاصمة القومية، والدستور يعلو على القانون ويتعين إتباعه” وبناءً عليه قضت المحكمة العليا بإلغاء العقوبة الحدية ، واستبدلت بها عقوبة تعزيرية، مع مراعاة مبدأ الرأفة المنصوص عليها دستوريا وفقا للمادة (156/ه) من الدستور الانتقالي لسنة 2005م([55])

النتائج:

يتضح مما سبق أن القضاء السوداني مر بمراحل متعددة لكل مرحلة ظروفها وخصوصيتها، تعامل معها المشرع بما يتناسب معها من أحكام؛ وأهم النتائج التي نخرج بها:

أولاً: القضاء في عصر سلطنتي الفور والفونج كان مزيجا بين الشرع والأعراف المحلية وكان الاعتماد في الأحكام الشرعية على المذهب المالكي الذي كان هو السائد في تلك الحقبة، وكان الجهاز القضائي عندهم يتكون من محكمة عليا بسنار ــ عاصمة المملكة ــ عليها قاض يلقب بقاضي عموم سنار، وتحته قضاة في كل مشيخة كما كان هنالك قضاء مماثل في القسم الشمالي للسلطنة يديره العبدلاب حلفاء الفونج في الحكم.

ثانياً: القضاء في عهد الحكم التركي المصري في أول عهده؛ كان يطبق أحكام الشريعة الإسلامية على المذهب الحنفي؛ على بعض القضايا خاصة أحكام القصاص والأحوال الشخصية، ثم في أواخر عهد الحكم التركي تحول لتطبيق القوانين الوضعية تبعا للتحول الذي حدث بعد غزو نابليون لمصر. أما الهيكل القضائي كان على رأسه قاضي عموم “سودان” الذي يتم تعيينه بأمر خديوي مصر، وكان القاضي يختار القضاة الآخرين الذين يتولى حكمدار عموم السودان تعيينهم، وكان هناك مجلس لكل مديرية، ومجلس استئناف بالخرطوم يسمى مجلس استئناف السودان، وفي بعض الأحيان كان يخصص لكل مديرية مفتٍ يقوم بالتصديق على أحكام ذلك المجلس وتخضع لموافقته.

ثالثاً: القضاء في عهد المهدية: قامت الثورة المهدية لهدف واحد هو “إحياء الكتاب والسنة المقبورين حتى يستقيما” ولذلك كان القضاء يقوم على الشريعة الإسلامية في كل الأحكام معتمدا على القرآن والسنة والمذكرات التفسيرية التي تمثلها منشورات الإمام المهدي وخليفته من بعده. وخطا النظام القضائي خطوات في تقسيم درجات التقاضي وإنشاء المحاكم الخاصة وعلى رأس تلك المحاكم المحكمة العليا (محكمة أم درمان).

رابعاً: النظام القضائي في عهد الحكم الثنائي: جاء النظام الاستعماري انقلابا على النظام الإسلامي السابق. وواجه المستعمر نظاما قضائيا راسخا ولم يقو على فرض قوانينه أو إلغاء النظام القانوني والقضائي السائد. إلا إن المستعمر طبق قانون القضاء المدني مقتبسا ذلك من قانون المستعمرات البريطانية كالهند وكان ذلك عام 1900م وكذلك في المجال الجنائي استجلب قانون العقوبات الهندي، وأول قانون في السودان كان قانون العقوبات لسنة 1899م ومن ميزات هذه الفترة استجلاب قانون تسجيلات الأراضي وتبعيته للقضائية؛ وهو من أفضل أنواع أنظمة التسجيلات في العالم. وعمل الاستعمار للفصل بين القضاء الشرعي والقضاء المدني ويشمل المدني والجنائي وترك مسائل الأحوال الشخصية للمسلمين لقوانين وأحكام الشريعة الإسلامية. وأسند الإشراف فيه لحلفائهم المصريين وكان منصب رئيس القضاء حكراً على الإنجليز حتى عام 1956م. وكانت القضائية في ذلك الوقت جزء من السلطة التنفيذية ولم ينص على استقلال القضاء إلا بعد بزوغ فجر الاستقلال 1956م وإقرار الدستور الانتقالي الذي نص على استقلال القضاء وفصله عن السلطة التنفيذية ([56]).

خامساً: القضاء في عهود السودان المستقل: صدر قانون الحكم الذاتي ولأول مرة كفل للقضاء استقلاله ومنع السلطتين التنفيذية والتشريعية التدخل في أعماله ومحاولة التأثير عليه. وصارت الهيئة القضائية حارسة دستور 1956م المؤقت؛ ولها حق تفسيره، واستمر العمل هكذا حتى عام 1958م والذي عطل الدستور وأصدر قانون المجلس المركزي، ثم جاءت ثورة 1964م فأعادت العمل بالدستور المؤقت، ولكن وفي عام 1966م فصل القضاء الشرعي عن المدني، وأنشأت محكمة استئناف مدنية عليا وشرعية عليا وفي عام 1972م تم دمج القضاء ثم فصلا عام 1976م ثم عاد الدمج الأخير وتوحيد القسمين في عام 1983م وفي تلك المرحلة أعلن تطبيق الشريعة الإسلامية؛ وكذلك أهم التطورات القضائية صدور قانون الهيئة القضائية لسنة 1983ــ1405هـ الذي نص علي أن ولاية القضاء في السودان لجهة قضائية واحدة تسمي الهيئة القضائية تكون مسئولة مباشرة لدي رئيس الجمهورية عن أداء أعمالها .كما أشتمل القانون علي تكوين المحكمة العليا و الأجهزة القضائية بحيث ينشأ جهاز قضائي في كل إقليم وبذلك تقاصر الظل القضائي للمتقاضين ويسر عليهم المقاضاة واستيفاء الحقوق .ثم قامت دوائر المحكمة العليا في الإقليم مما درأ عن المواطنين مشقة وعنت الترحال والأسفار للوصول للخرطوم مقر المحكمة العليا([57]).

التوصيات:

  1. تقييم التجارب القضائية بمقياس العدل: الهدف المركزي للقضاء هو إقامة العدل وصيانة الاستقرار في المجتمع؛ فينبغي أن تقيم أجهزتنا العدلية بهذا المقياس هل تمكنت من إقامة العدل؟ وإذا كانت الإجابة نعم نحمد الله على ذلك؛ أما إذا كانت الإجابة بالنفي فمطلوب منا أن نتعرف على الأسباب ونزيلها حتى تتحقق حكومة العدل.
  2. تبادل التجارب بين الدول: لكل دولة تجربة؛ لها خصوصيتها وأسبابها؛ فتبادل التجارب بين الدول يثري المعرفة ويساهم في تجويد الأداء ويعزز التعاون بين الدول الإسلامية.  
  3. المقارنة بين النظام القضائي الإسلامي والنظم الوضعية المعاصرة: اختلاف المصادر لا يمنع من التعرف على تجارب الدول الأخرى، خاصة في الوسائل والإجراءات الضامنة لاستقلال القضاء؛ فالمقارنة تبين تميز المنهج الإسلامي في التشريع، وتبين تطور النظم الوضعية في الآليات والإجراءات.
  4. الاستفادة من التجارب الإنسانية: المنهج الإسلامي اتسم بالمرونة في استصحاب النافع من العطاء الإنساني؛ يؤكده الاحتفاء بحلف الفضول، وتدوين الدواوين، ومجهودات دار الحكمة، ويؤصله قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ([المائدة:8].
  5. دراسة العقوبة ضمن منظومة العدل في الإسلام: المنهج الإسلامي لا يعتمد على العقوبة وحدها في الإصلاح وإنما يقوم على منظومة متكاملة تبدأ بالإيمان ثم العبادات ثم الأخلاق ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع كفالة الضرورات ثم العقوبة وهي محاطة بإجراءات وضوابط تبين فلسفة العقوبة ضمن المنظومة الإسلامية المتكاملة إن التزام نظامنا القضائي بالمنهج الإسلامي؛ سوف يرفد الإنسانية بنظام قضائي إلهي إنساني عادل يحقق الكرامة الإنسانية.

والله من وراء القصد والهادي إلى سواء السبيل.

المصادر والمراجع:

  1. دساتير السودان.
  2. تطور نظام القضاء في السودان؛ حسين سيد أحمد المفتي.
  3. تاريخ القضاء في السودان من العبدلاب إلى الاستقلال؛ بقلم د. خليفة بابكر الحسن مقال نشر بصحيفة البيان الإماراتية بتاريخ 22مايو 2002م.
  4. تاريخ القضاء السوداني؛ بحث منشور بعنوان صفحة من تاريخ القضاء في الدولة السنارية صحيفة ألوان مولانا القاضي يوسف إبراهيم النور.
  5. أضواء على النظام القضائي في السودان؛ منشورات السلطة القضائية. 
  6. تجربة استقلال القضاء في ضوء التجارب العربية بروفيسور/ حيدر أحمد دفع الله رئيس القضاء رئيس المحكمة القومية العليا رئيس المفوضية القومية للخدمة القضائية بجمهورية السودان؛ ورقة مقدمة للمؤتمر السادس لرؤساء المحاكم العليا في الدول العربي في بيروت بتاريخ 14-16/9/2015م.
  7. لمحة عن القضاء في السودان؛ الحلقة العلمية الخاصة – نماذج من نظم العدالة العربية والدولية جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية المملكة العربية السعودية. الرياض 1430ه ــ 2009م.
  8. أزمة سودنة منصب قاضي القضاة إبان عهد الحكم الثنائي بقلم الدكتور فيصل عبد الرحمن علي طه؛ نشر بمجلة (آداب) جامعة الخرطوم العدد (2) ديسمبر 2002م
  9. مؤسسة العدالة في الإسلام بين التاريخ والتطورات المعاصر ة؛ بحث قدمه القاضي الدكتور محمد خليفة حامد لندوة تطور العلوم الفقهية بسلطنة عمان.
  10. تاريخ القضاء السوداني (بين عهدين) (1899- 2005م) تأليف القاضي محمد إبراهيم محمد (وجه الرجال) الطبعة الثانية 2007م شركة مطابع السودان للعملة – الخرطوم
  11. سلطة القاضي التقديرية في الفقه الإسلامي ــ دراسة فقهية قانونية تطبيقية مقارنة ــ د. عبد الرحمن محمد عبد الرحمن شرفي ــ الطبعة الأولى 1430هـ ــ 2009م ــ مطابع العملة السودانية.
  12. استقلال القضاء في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي ــ د. يعقوب بن محمد السعيدي ــ مطابع المكتب الفني للأجيال ــ الطبعة الأولى 1429هـ ــ 2008م.
  13. الموسوعة الحركية، بإشراف فتحي يكن، تراجم إسلامية من القرن الرابع عشر الهجري، المجلد الأول الصفحات 229 ــ 235 الطبعة الأولى 1400هـ 1980م مؤسسة الرسالة ــ بيروت شارع سوريا ــ بناية صمدي وصالحة، إعداد ــ جمع ــ وتحقيق مؤسسة البحوث والمشاريع الإسلامية.
  14. بحوث المؤتمر العلمي الأول الذي نظمه مركز الدراسات المهدوية بجامعة الإمام المهدي بالسودان بتاريخ 11-12/8/2016م.

(([1] تاريخ القضاء السوداني؛ بحث منشور؛ صفحة من تاريخ القضاء في الدولة السنارية صحيفة ألوان السودانية ؛ مولانا القاضي يوسف إبراهيم النور بتصرف.

(([2] معجم الأنهر 7/37 وما بعدها وحاشية رد المحتار على الدُر المختار ــ ابن عابدين ــ طبعة العثمانية ــ (8/20).

([3]) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام للإمام محمد بن فرحون اليعمري المالكي ــ طبعة البهية/مصر 1302هـ ــ صفحة (1/11).

([4]) مُغني المحتاج ــ محمد الشربيني الخطيب ــ البابي الحلبي ــ مصر (6/257) ــ و (19/48).

([5]) كشّاف القناع على متن الإقناع ــ منصور بن يونس البهوتي ــ القاهرة ــ مطبعة أنصار السنة المحمدية ــ 1366هـ ــ 1947م ــ (22/17).

([6]) مؤسسة العدالة في الإسلام بين التاريخ والتطورات المعاصر ة؛ بحث قدمه القاضي الدكتور محمد خليفة حامد لندوة تطور العلوم الفقهية بسلطنة عمان بتصرف.

([7]) المرجع السابق.

([8]) تاريخ القضاء في السودان من العبدلاب إلى الاستقلال؛ مقال بقلم د. خليفة بابكر الحسن؛ صحيفة البيان الإماراتية بتاريخ 22مايو 2002م.

([9]) المرجع السابق.

([10]) صفحة من تاريخ القضاء في الدولة السنارية؛ مرجع سابق.

(11)  مؤسسة العدالة في الإسلام بين التاريخ والتطورات المعاصرة؛ مرجع سابق.

(([12] تاريخ القضاء في السودان من العبدلاب إلى الاستقلال، د. خليفة بابكر الحسن؛ مرجع سابق.

([13]) القانون الهمايوني؛ مرسوم عثماني صادر من السلطان عبد المجيد خان المعروف بعبد المجيد النظامي في 18 فبراير 1856م وذلك بغرض الإصلاحات الدينية في الولايات العثمانية (www.wikipedia.org).

([14]) تاريخ القضاء في السودان من العبدلاب إلى الاستقلال، د. خليفة بابكر الحسن.

([15]) المرجع السابق بتصرف.

([16]) الموسوعة الحركية، بإشراف فتحي يكن، تراجم إسلامية من القرن الرابع عشر الهجري، المجلد الأول الصفحات (229ــ235) الطبعة الأولى 1400هـ 1980م مؤسسة الرسالة ــ بيروت شارع سوريا ــ بناية صمدي وصالحة، إعداد ــ جمع ــ وتحقيق مؤسسة البحوث والمشاريع الإسلامية.

([17]) كانت المنشورات تتضمن ثلاثة أمور: موجهات الدعوة، والإنذارات، والأحكام.

([18]) القضاء في المهدية؛ بحث مقدم للمؤتمر الأول للدراسات المهدوية بجامعة الإمام المهدي إعداد: د. المعز هارون محمد ابراهيم. أستاذ مشارك ونائب عميد كلية الشريعة والقانون؛ بتاريخ: 11-12/8/2016م انظر دفتر الشكاوى والعروضات صدر رقم 7،11 دار الوثائق المركزية بالخرطوم.

([19]) منشورات المهدية: تحقيق الدكتور محمد ابراهيم أبو سليم (ص204).

([20])  كتاب منشورا المهدي جـ 1 (ص23)، (طبعة حجرية) دار الوثائق المركزية بالخرطوم.

([21]) تحديات بناء الدولة السودانية في المهدية؛ بحث مقدم في مؤتمر الدراسات المهدوية بجامعة الإمام المهدي؛ إعداد: المستشار/ البشرى عبد الحميد محمد مدير الإدارة القانونية ــ مجموعة شركات المجدوعي المملكة العربية السعودية.

(([22] مهدية، قسم ثاني، مجموعة السيد الصادق (مخطوط) جـ3 (ص308)، دار الوثائق المركزية بالخرطوم.

([23]) نفس المرجع (ص1319).

([24]) تاريخ القضاء في السودان من العبدلاب إلى الاستقلال؛ د. خليفة بابكر الحسن.

(  ([25]د. محمد ابراهيم أبو سليم (تحقيق)منشورات المهدية/من محمد المهدي إلي الشيخ محمد جبارة/1299هـ (1881) (ص216).

([26])  تطور نظام القضاء في السودان ص (149 وما بعدها).

([27]) السابق ص (187).

[28] تاريخ القضاء في السودان من العبدلاب إلى الاستقلال؛ مقال بقلم د. خليفة بابكر الحسن؛ صحيفة البيان الإماراتية بتاريخ 22مايو 2002م.

[29] السودان من الاستعمار البريطاني إلى فجر الاستقلال – روبرتسون ص136

[30] تاريخ القضاء السوداني (بين عهدين) (1899- 2005م) تأليف القاضي محمد إبراهيم محمد (وجه الرجال) ص24 بتصرف الطبعة الثانية 2007م شركة مطابع السودان للعملة – الخرطوم

[31] السابق ص31

[32] المادة (8) من قانون المحاكم الشرعية 1902م

[33] السابق 33

(([34] تاريخ القضاء في السودان من العبدلاب إلى الاستقلال؛ مقال بقلم د. خليفة بابكر الحسن؛ صحيفة البيان الإماراتية بتاريخ 22مايو 2002م.

[35] تاريخ القضاء السوداني بين عهدين، مرجع سابق ص 170

[36] السابق

[37] أزمة سودنة منصب قاضي القضاة إبان عهد الحكم الثنائي بقلم الدكتور فيصل عبد الرحمن علي طه؛ نشر بمجلة (آداب) جامعة الخرطوم العدد (2) ديسمبر 2002م ص67-84

[38] السابق

[39] تاريخ القضاء السوداني بين عهدين، مرجع سابق ص 187-191 بتصرف

(([40] كتب المقال قبل 15 سنة، مما يجعل التاريخ الآن 35 عاما مرت على سن قوانين الشريعة الإسلامية.

(([41] تاريخ القضاء في السودان من العبدلاب إلى الاستقلال؛ مقال بقلم د. خليفة بابكر الحسن؛ صحيفة البيان الإماراتية بتاريخ 22مايو 2002م.

[42] تاريخ القضاء السوداني بين عهدين، مرجع سابق ص 243-245 بتصرف

([43]) أثر التشريعات الإسلامية في النظام القانوني السوداني (دراسة تحليلية) د. أحمد عثمان عمر، ص (330) الشركة العالمية للطباعة والنشر/ السودان ط 2006م 7 ش ممر ناصر ــ حدائق المعادي ــ القاهرة

([44]) ورقة بعنوان تجربة استقلال القضاء في ضوء التجارب العربية بروفيسور/ حيدر أحمد دفع الله رئيس القضاء السوداني؛ مقدمة للمؤتمر السادس لرؤساء المحاكم العليا في الدول العربية ــ بيروت ــ لبنان في الفترة من 14ــ16/9/2015م.

([45]) استقلال القضاء في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي ــ د. يعقوب بن محمد السعيدي ــ مطابع المكتب الفني للأجيال ــ الطبعة الأولى 1429هـ ــ 2008م (ص41).

([46]) سلطة القاضي التقديرية في الفقه الإسلامي ــ دراسة فقهية قانونية تطبيقية مقارنة ــ د. عبد الرحمن محمد عبد الرحمن شرفي ــ الطبعة الأولى 1430هـ ــ 2009م ــ مطابع العملة السودانية ــ (ص743).

([47]) مؤسسة العدالة في الإسلام بين التاريخ والتطورات المعاصر ة؛ بحث قدمه القاضي الدكتور محمد خليفة حامد لندوة تطور العلوم الفقهية بسلطنة عمان بتصرف.

(([48] أضواء على النظام القضائي في السودان؛ منشورات السلطة القضائية.  

([49]) أضواء على النظام القضائي في السودان؛ منشورات قضاء السودان. وأيضا راجع تجربة استقلال القضاء في ضوء التجارب العربية بروفيسور/ حيدر أحمد دفع الله رئيس القضاء السوداني؛ مقدمة للمؤتمر السادس لرؤساء المحاكم العليا في الدول العربية- بيروت – لبنان في الفترة من 14ــ16/9/2015م.

([50]) د. أسامة علي مصطفي الفقير، أصول المحاكمات، دار النفائس الأردن، الطبعة الأولي 2005م، ص 451.

([51]) لمحة عن القضاء في السودان؛ الحلقة العلمية الخاصة – نماذج من نظم العدالة العربية والدولية جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية المملكة العربية السعودية. الرياض 1430ه – 2009م.

([52]) تجربة استقلال القضاء في ضوء التجارب العربية بروفيسور/ حيدر أحمد دفع الله رئيس القضاء رئيس المحكمة القومية العليا رئيس المفوضية القومية للخدمة القضائية بجمهورية السودان ورقة مقدمة للمؤتمر السادس لرؤساء المحاكم العليا في الدول العربي في بيروت بتاريخ :14-16/9/2015م.

([53]) أضواء على النظام القضائي السوداني؛ منشورات قضاء السودان.

([54]) أخرجه ابن ماجة عن أبي هريرة وهو حديث صحيح (2/850) رقم (2545).

([55]) أضواء على النظام القضائي السوداني؛ منشورات قضاء السودان.

([56]) تاريخ القضاء السوداني؛ بحث منشور؛ صفحة من تاريخ القضاء في الدولة السنارية صحيفة ألوان السودانية؛ مولانا القاضي يوسف إبراهيم النور بتصرف.

([57]) المرجع السابق.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى