مقالات الدكتور عبدالمحمود أبو أبراهيم

المؤتمر الدولي: الإسلام في أفريقيا - ومواجهة التطرف والارهاب

المؤتمر الدولي: الإسلام في أفريقيا - ومواجهة التطرف والارهاب

المنتدى العالمي للوسطية

المؤتمر الدولي: الإسلام في أفريقيا – ومواجهة التطرف والارهاب

نايجيريا – لاغوس

8 – 9     أغسطس 2015

التطرف الديني وآثاره الدينية والاقتصادية والسياسية والثقافية

بقلم: عبدالمحمود أبّو ابراهيم

رئيس منتدى الوسطية –  فرع السودان

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة:

ابتلي العالم في العقود الأخيرة بظاهرة الإرهاب الذي يغذيه الغلو والتطرف؛ والذي بدوره يُبرزه الإحساس بالظلم، وحالة الإحباط العامة التي تعيشها كثيرمن الشعوب؛ نتيجة لعدة عوامل منها الفقر والبطالة عند بعض الناس، وبؤس الرفاهية عند آخرين.

والإرهاب في العالم الإسلامي جاء نتيجة للغلو في الدين، والتطرف في الأفكار،  والتشدد في المواقف، تلك الصفات التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: “إياكم والغلو في الدين، فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين”[1]

لقد تصدرت أخبار الغلاة والمتشددين جُل أجهزة الإعلام! ومامن يوم يمُرُّ إلا وتقرأ فيه، أو تسمع أوتشاهد نبأ التفجيرات التي ينفذها المتطرفون ضد المدنيين في مواقع التجمعات المختلفة،حتى أضحت هذه الأخبار هي المسيطرة على أجهزة الإعلام.

ولاشك أن الغلو وتوابعه أمرٌ تَنْفِر منه العقول السليمة، ويرفضه الضمير الإنساني السَّوِي؛ لأنه ضد الفطرة، ويعبر عن حالة مَرَضية للمُتَّصفين به، والغلو والتطرف لاهوية لهما ولاوطن لهما ولادين، فمنذ وجد الإنسان في هذه الدنيا؛ خلقت معه نزعات متعددة تحمل بذرة الخير وبذرة الشر.

                   كأن عدة أرواح تقوم به              فليس يهدأ ولاتهدأ رغائبه

ومهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ تدور حول تنمية عوامل الخير في الإنسان، وتطهيره من نزعات الشر وذلك بإرشاده وتوجيهه للوظيفة التي خلق لأجلها؛ وهي إخلاص العبادة لله، والقيام بوظيفة الإستخلاف على الوجه الذي حدده الله سبحانه وتعالى.

ومع أن الرسل بلَّغوا ما أُنزل إليهم من ربهم؛ إلا أن المجتمع البشري لايخلو من المخالفين للأوامر الإلهية، والمنحرفين في أفكارهم؛ وأخطرهم أولئك الذين يُحَرِّفون كلام الله ويزعمون أنهم يطبقون أحكام الدين! وقد ظهر الغُلُو في كل الملل؛ فاليهود اشتُهروا بالغُلُو التَّجسيدي المادي؛ حتى أنهم قالوا لموسى عليه السلام:أرنا الله جهرة! قال تعالى: ” يَسْئَلُكَ أَهْلُ الكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً”[النساء:153] والنصارى كان غُلُوُّهم في نسبة الولد لله؛ ورفعهم  المسيح حتى أنهم ألَّهُوه وقد حذرهم الله من ذلك بقوله تعالى: ” يَا أَهْلَ الكِتَابِ  لاَ  تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا  فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً”[النساء:171] وقوله تعالى: ” قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ  لاَ  تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَتَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ”[المائدة:77].

وعندما ظهرت أمارات الغُلو في عهد نزول القرآن؛ بادر الرسول صلى الله عليه وسلم بالقضاء عليها في مهدها، مبينا لأُمَّته أن الرسالة الخاتمة؛ جاءت لرفع الإصر والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، ومعلنا أن هذا الدين يُسْرٌ ولن يُشَادَّ الدين أحد إلاغلبه، مُحَذِّرا من التَّنَطُّع والتشدد والغُلو، وفي وقت لاحق نتيجة لعدة عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وعقيدية؛ برز الغلو مرة أخرى وراح ضحيته خليفتان من الخلفاء الراشدين، وعدد من المسلمين بينهم صحابة وتابعون وعلماء وغيرهم.

وفي العصر الحديث انتشر الغُلو بصورة مُوسعة، شمل معظم البلدان الإسلامية وغيرها، وأدي إلى وقوع خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات والعلاقات، وشَوَّه صورة الإسلام والمسلمين تشويها فتح الباب للتدخُّلات الأجنبية، وأدى إلى إحجام كثير من الراغبين في الدخول في الإسلام.

لقد كانت أكبر خسارة حقَّقها الغُلو تَمثَّلت في الصَّدِّ عن الإسلام واتهامه بالعنف والإرهاب، فضلا عن الأرواح التي أُزهقت والأموال التي أهدرت، والتشويه الذي لحق بالمجتمعات المسلمة من تكفير وتعصب وتدمير.

لقد ثبت حجم الضرر الذي لحق بالإسلام والمسلمين بل وبالعلاقات الإنسانية عموما؛ نتيجة للغُلُوّ والتَّطَرف والتشدُّد والعنف؛ مما يوجب تضافر الجهود وتعاون الكافة لمواجهة هذه الظاهرة بالتعرف على أسبابها وعوامل تغذيتها وآثارها، وأنجع الطرق والوسائل لعلاجها.

إنني أشارك في هذا المؤتمر بهذا البحث الذي يشتمل على ثلاثة محاور ومقدمة وخاتمة سائلا الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لتشخيص هذه الظاهرة الخطيرة والمساهمة في تحجيمها ومعالجة آثارها؛ شاكرا لمنظمي هذا المؤتمر في رئاسة المنتدى العالمي للوسطية، وفرع نايجيريا، والمركز النيجيري للبحوث العربية؛ سائلا المولى عز وجل أن يجزيهم عن أمة الإسلام خير الجزاء.

المحور الأول: التطرف الديني أسبابه ومظاهره :

التعريف:

التطرف لغة: الوقوف في الطَّرَف، والطَّرَف بالتحريك: جانب الشيئ، ويستعمل في الأجسام والأوقات وغيرها.

والتَّطَرف اصطلاحا: مجاوزة حد الإعتدال.[2]

والعلاقة بين المعنيين اللغوي والعرفي واضحة؛ فكل شيئ له وسط وطرفان، فإذا جاوز الإنسان وسط شيء إلى أحد طرفيه قيل له: تَطَرَّف في هذا الشيء، أو: تَطَرَّف في كذا، أي جاوز حد الاعتدل ولم يتوسط. وعلى ذلك فالتَّطَرُّف يصدق على التَّسَيُّب، كما يصدق على الغلو، وينتظم في سلكه الإفراط، ومجاوزة الحد، والتفريط والتقصير على حد سواء؛ لأن في كل منهما جنوحاً إلى الطرف وبعداً عن الجادَّة والوسط[3] والتطرف والغلو مرتبطان ارتباطا وثيقا، فكل غلو يؤدي إلى تطرف، وكل تطرف ينتج عن غلو.

والغلو لغة: مجاوزة حد الإعتدال، وفي مقابل طرفه هذا طرف آخر هو التَّفْريط أو التَّسَيُّب، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.

والغلو اصطلاحا: نجد النصوص الشرعية تَقْرن بين “الغلو” و”التنطع” وكأنها جميعا مجاوزة حد الاعتدال المطلوب من المسلم أن يلتزم به.[4] 

ويقال غلا الرجل في الدين والأمر غلواً ، إذا جاوز حده، ومعناه عدم الاقتصار على الوسطية، وعرفه شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – كما هو في كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم) بأنه: (مجاوزة الحد بأن يزاد في الشيء في مدحه وذمه على ما يستحق)، وقد ذكر ذلك وقريباً منه الشاطبي في كتابه (الاعتصام)، والحافظ ابن حجر في الفتح وصاحب كتاب تيسير العزيز الحميد، وقالوا: إن الغلو (هو الزيادة ـ والزيادة لفظ عام ـ وسواء كانت هذه الزيادة اعتقادية، أو عملية أو حكماً على الآخرين)[5].

المؤتمر الدولي: الإسلام في أفريقيا – ومواجهة التطرف والارهاب

وأطلق العلماء قديما كلمة التطرف الديني على القائل المخالف للشرع، وعلى القول المخالف للشرع، وعلى الفعل المخالف للشرع. فهو فهم النصوص الشرعية فهما بعيدا عن مقصود الشارع وروح الإسلام، فالتطرف في الدين هو الفهم الذي يؤدي إلى إحدى النتيجتين المكروهتين، وهما الإفراط أو التفريط. والمتطرف في الدين هو المتجاوز حدوده، والجافي عن أحكامه وهديه، فكل مُغال في دينه متطرف فيه مجاف لوسطيته ويسره[6] والتطرف قد يكون في المعتقد، وقد يكون في الفكر، وقد يكون في المواقف والسلوك؛ فتجد الشخص المتطرف فاسد العقيدة، منحرف الفكر، حاد الطبع، يقسو على نفسه ويتعامل مع الناس بجفاء وغلظة! ينفر منه جميع الأسوياء، والتطرف في الدين أثر من آثار الوسوسة الشيطانية؛ يقول ابن القيم: “ما من أمر أمر الله به إلا وللشيطان فيه نزغتان؛ إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو. ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له؛ فالغالي فيه مضيع له، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد”[7] .

المؤتمر الدولي: الإسلام في أفريقيا – ومواجهة التطرف والارهاب

مظاهره:

إن للتطرف مظاهر كثيره أهما الآتي:

أولا:الغلو في المعتقد: العقيدة هي فهم الإنسان للدين، وتَصَوُّره للكون والحياة؛ ومن ثم رسوخ هذا الفهم في وجدانه إيمانا وتعبدا وتعاملا، ولذلك اختلفت العقائد حسب استعداد كل شخص من حيث المعرفة، والخبرة، والتوازن النفسي، والبيئة المحيطة. فمن الناس من يكون إعتقاده صحيحاً لِتَلَقِّيه للمعلومة الصحيحة من أهل التخصص، ومن المصادر الموثوقة، وتأهُّله الشخصي لهذا التَّلَقِّي، ومنهم من تكون عقيدته منحرفة، لِخطإِ معلوماته، وفساد مصادره.

إن الاستقامة في العقيدة، والاعتدال في الفهم، والتوازن في المواقف؛ أمور تتحق عند الذين يتلقون معلوماتهم من مصادرها الصحيحة،المتمثلة في الأنبياء والرسل والعلماء الربانيين، فهؤلاء تجدهم يلتزمون منهج الوسطية في معتقدهم، وفي مواقفهم، وفي سلوكهم، وفي تعاملهم؛ لأنهم التزموا فطرة الله التي فطر الله الناس عليها وهي تمثل الدين القيم.

وأما المخالفون لهم فتجدهم يغالون في عقيدهم وفي مواقفهم وفي سلوكهم وفي تعاملهم؛ وهؤلاء يفسدون ولا يصلحون قال صلى الله عليه وسلم: “…إن المُنْبَتَّ لاأرضا قطع ولاظهْرا أبقى”[8] وقال تعالى: ” قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً”[الكهف:103-104] إن الغلو في العقيدة قد يكون بإطلاق أوصاف على الله سبحانه وتعالى لاتليق به؛ وقد يكون بالتفريط في جنب الله جهلا بعظمته. كما يكون الغلو بإضفاء صفات على المخلوقين إفراطا، أو انتقاصا للكرامة الإنسانية تفريطا،وهذا الغلو يدفع صاحبه إلى سرعة تكفير الآخرين؛ لأنهم حسب تصوُّرِه خرجوا من الملة التي تنحصر في فهمه هو، وكل من يخالفه فهو كفر! وخلاصة القول: أن الغلو في المعتقد هو الخروج عن الفهم الصحيح للعقيدة القائم على قواعد الإسلام الخمس، والإلتزام بأركان الإيمان الست، والتصور الإسلامي العام للكون والحياة الإنسان؛ والذي تلخصه الآيات الكريمة من سورة الأنعام: ” قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا  كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162)  لاَ  شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَباًّ وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأنعام: 161-165]

المؤتمر الدولي: الإسلام في أفريقيا – ومواجهة التطرف والارهاب

ثانيا: التعصب للرأي: من مظاهر التطرف؛ التعصب للرأي وإن خالف الحق! والتعصب من أهم الأسباب التي دفعت أهل مكة لرفض رسالة الإسلام تمسكا بما وجدوا عليه آباءهم قال تعالى: ” وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ”[الزخرف:23-24] إنه التقليد الأعمى الذي يصد المرء عن رؤية الحق، ويحول بينه وبين الصراط المستقيم، تعصبا لما ألفه؛ وليس هذا وقفا على من هم خارج الإسلام بل تجد في داخل الملة من أصيب بهذه النزعة المتعصبة، خاصة في الأمور التي تحتمل أكثر من معنى، فيتعصب لرأي شيخه، أو إمامه، أوطائفته، أوحزبه وإن كان الحق مع غيرهم، وهذا نهج يخالف منهج أهل العلم الذين يتبعون الدليل ولايتعصبون للرأي؛ يقول ابن القيم: ” ثم خلف من بعدهم خلوف فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون، وتقطعوا أمرهم بينهم زبرا وكلهم إلى ربهم راجعون، جعلوا التعصب للمذاهب ديانتهم التي بها يدينون، ورؤوس أموالهم التي بها يتَّجِرون”[9] وهذا النوع من التعصب أدى إلى تعميق الخلاف بين المسلمين، مع أن عوامل الوحدة أكثر لو اتبعوا المنهج العلمي الذي يلتزم بالأصول والقطعيات، ويتسامح في الفروع والظنيات، بل قد يدفع التعصب صاحبه إلى رد النصوص القطعية لمخالفتها لرأي المقلد المتعصب!يقول ابن القيم: “وكيف يكون من ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم من يجتهد ويكدح في رد ماجاء به إلى قول مقلده ومتبوعه؟ ويُضَيِّع ساعات عمره في التعصب والهوى ولايشعر بتضييعه؟ تالله إنها فتنة عمَّت فأعْمت، ورمَت القلوب فأصْمت، رَبا عليها الصغير، وهرِم فيها الكبير، واتُّخِذ لأجلها القرآن مهجورا”[10] التعصب مظهر من مظاهر الغلو.

المؤتمر الدولي: الإسلام في أفريقيا – ومواجهة التطرف والارهاب

ثالثا:التشديد على النفس: من مظاهر التطرف الخروج عن منهج الإعتدال، فتجد المتطرف يتشدد على نفسه، ويقسو عليها، ويكلفها ما لاتطيق، فيلزم نفسه بالعزائم دائما، ولايأخذ بالرخص مهما توفرت موجباتها، ويحرم على نفسه الطيبات، ظانّاً بأنه يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى! قال سفيان الثوري: “إنما الفقه الرُّخصة من ثِقة، أما التَّشَدُّد فيُحْسِنه كلُّ أحد”! وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك في أكثر من حديث. قال صلى الله عليه وسلم: “إن الدين يُسْر، ولن يُشَادَّ الدين أحدٌ إلا غَلبه…”[11] وقوله صلى الله عليه وسلم: “لاتُشَدِّدوا على أنفسكم فيُشَدِّد الله عليكم ، فإن قوما شَدَّدُوا على أنفسهم فَشَدَّدَ الله عليهم ، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار..”[12] إن التشدد في التدين يناقض رسالة الإسلام التي جاءت بالتخفيف واليسر ورفع الإصر؛ قال تعالى: “… وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ…”[الأعراف:156-157].

المؤتمر الدولي: الإسلام في أفريقيا – ومواجهة التطرف والارهاب

ولتأكيد أهمية اليسر في الإسلام؛ نهى رسول الله عن الإلحاح في السؤال حتى لايكون سببا في إيجاب حكم على الأمة يزيد من التزاماتها؛ قال صلى الله عليه وسلم: “إن الله حَدَّ حُدودا فلا تَعْتَدوها، وفَرَض أشياء فلا تُضيعوها، وحرَم أشياء فلا تَنْتَهِكوها، وسَكَتَ عن أشياء رحمةً بكم غير نِسْيان فلا تبحثوا عنها”[13] يقول الشيخ القرضاوي:” والخطاب في قوله: ” فلا تبحثوا عنها” للصحابة في زمن نزول الوحي، حتى لايترتب على بحثهم وتقعُّرهم تشديد بزيادة التكاليف، من إيجاب واجبات، أو تحريم محرمات”[14] ولهذا قال في الحديث الآخر: “ذروني ماتركتكم”[15]

رابعا: الجفوة في التعامل: من مظاهر الغلو، الغلظة والجفوة والفظاظة في التعامل مع الناس، فالغلاة لايعرفون لِينَ الكلام ولاسَمْحَ القول؛ فأسلوبهم في الغالب طابعه القسوة والجفاء، وهو أسلوب مُنَفِّر، يُناقض منهج الإسلام الداعي إلى الرفق واللين والتبشير والتيسير، بل حتى عتاة المجرمين والعصاة أمر الله سبحانه وتعالى بالترفق معهم، فعندما بعث الله موسى وهارون إلى فرعون الذي ادَّعَى الرُّبوبية أوصاهما أن يترفقا به، وأن يقولا له قولا لينا! قال تعالى:” اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى”[طه:42-443] والرسول صلى الله عليه وسلم كان سَمْح السجايا، كَسَاه الله بالجمال وكريم الخصال، أحبه كل من رآه، وأثنى عليه ربُّه بأنه ذوخلق عظيم، ومع ذلك نبَّهه ربُّه بأنّ منهج اللِّين هو الذي يؤَلِّف قلوب الناس، والغلظة تُنَفِّرهم؛ قال تعالى: ” فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ” [آل عمران:159].

المؤتمر الدولي: الإسلام في أفريقيا – ومواجهة التطرف والارهاب

إن الغلظة في الطبع، والجفاء في التعامل، والفظاظة في القول؛ صفات تتناقض مع منهج الإسلام القائم على السماحة واللطف واللين.عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ليس المؤمن بالطّعَّان، ولا اللعَّان، ولا الفاحش، ولا البذيء”[16]

المؤتمر الدولي: الإسلام في أفريقيا – ومواجهة التطرف والارهاب

خامسا: سوء الظن بالآخرين: سوء الظن يعني عدم الثقة في الآخرين، وتفسير أقوالهم وأفعالهم وجميع تصرفاتهم بما يخالف ظاهرها، ويَحْدُث نتيجةً لِسُوء طَوِيَّة، أولِوَسْوَسَة، أولتكرارِ تجاربَ مؤلمة مع بعض الناس، أدَّت لتعميم سوء الظن على كل الآخرين! وقليل من الناس مَن يستخدم سوء الظن على غرار المقولة الشائعة “سوء الظن من حُسْن الفِطَن” وهي تعني التَّرَيُّث والتَّثَبُّت والتَّحَقُّق من مواقف الآخرين للتَّأكُّد من صِحَّتِها، ولاتعني الجانب السلبي الذي نَعْنِيه من سوء الظن في هذا البحث، ويَصْدُق على ذلك مانُسِبَ للخليفة الراشد عمر بن الخطاب من قول: ” َلسْتُ خِبّاً ولاالخِبُّ يَخْدَعُني” هذا الجانب من سوء الظن – إذا جاز التعبير –  يُعْتَبَرُ محموداً، وأُفَضِّل تَسْمِيَته بالتَّثَبُّت والتَّحَقُّق ثم التصديق.

أماسوء الظن المذموم فهو ما يتعامل به الغلاة تجاه مُخالفيهم، وهو الذي نهى القرآن عن الاكثار منه وجَعْلِه دَيْدَناً، قال تعالى: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ…”[الحجرات:12].

المؤتمر الدولي: الإسلام في أفريقيا – ومواجهة التطرف والارهاب

إن افتراض كل الآخرين غير صادقين، وغير مؤمنين، وغير مدركين لحقيقة الدين؛ يجعل الحياة مضطربة، وصاحب هذا الإعتقاد لايستطيع أن يتعامل مع البشر الذين خلقهم الله أحرارا عقلاء ذوي إرادة، فصاحب الظن السيئ لايمكنه التعايش مع من يسيء بهم الظن، ولذلك يسعى لإدخالهم في زمرته وإلا سيواجههم، وهو مظهر من مظاهر الغلو. “فما أسوأ أمة تعيش في فتنة وغليان، يتقاذف بعضهم اتهامات الآخرين بالتكفير أو الضلال، أو الزندقة، أو الخروج من الإسلام؛ لأن المتهم جَنَح إلى فكر أو اعتقاد غير مألوف”[17]

المؤتمر الدولي: الإسلام في أفريقيا – ومواجهة التطرف والارهاب

سادسا:المسارعة للعنف عند الاختلاف: خُلِق الإنسان وجُبِل على المدنية، أي العيش مع الجماعة، ومن شأن المجتمع البشري الاختلاف في العقائد والآراء، والمنهج الراشد هوالذي يدير الاختلاف والتنوع بالسلم وإعلاء المشتركات؛ ولكن الغلاة ليست لديهم منطقة وسطى؛ إما أن تكون معهم أوضدهم، وعند الاختلاف فالحسم يكون باستعمال العنف، وهذا يتناقض مع منهج الإسلام القائم على الحوار واستخدام الحجة والبراهين الدالة على الحق، والموضوعية في الحوار؛ قال تعالى: ” قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ  (24)  قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ”[سبأ:24-25] إنه منهج يبدأ بالمتفق عليه، وانتزاع الاقرار من المخالف، حيث أن أكثرية البشر تُقِرُّ بأن الخالق والرازق هو الله، ثم يؤكد أن المختلفَيْن أحدهما على باطل والآخر على حق، وهو أمر يُصَدِّقُه الواقع. ولم يَنْسِب في هذه المرحلة الحقَّ لأيِّ جهة، وترك أمْرَ تَحْدِيدِه للحوار المنهجي، ثم يختم بعبارة لو التزم بها دعاة الحق لدخلوا القلوب، ولمَهَّدُوا الطريق لطالبي الحق للاقتناع والاتباع؛ تلك العبارة هي:” قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ” حيث خاطبت المخالف بأن ماتَنْسِبه لنا، مما تظنُّه إجراماً لاتُسْأل عنه، ولانُسْأل نحن عما تعمل! لاحظ ” أجرمنا” و”تعملون” نسب الإجرام للمؤمنين مع أنهم على حق، ووصف فعل المشركين بالعمل مع أنه باطل! تأكيدا وثقة بأن الحوار المنهجي سيؤكد صحة موقف المؤمنين وبطلان منهج خصومهم. وتعليما لأمة الإسلام بأهمية الحوار كمنهج للاقناع. أما أسلوب الغلاة المعتمد على العنف فليس منهجا صحيحا لإثبات الحق.

المؤتمر الدولي: الإسلام في أفريقيا – ومواجهة التطرف والارهاب

سابعا:تضخيم الذات واحتقار الآخر: من الصفات الواضحة لدى المتطرفين؛ أنهم لايُعطون اعتبارا ولاوزنا لمخالفيهم، ولايقدرون قوة الخصم تقديرا صحيحا، وفي المقابل يُضَخِّمون ذاتهم تضخيما ورَمِيًّا!يحتكرون الحق والمعرفة والنجاة، ويرمون مخاليفهم بالبطلان والجهل والهلاك،

أسبابه:

لقد صار التطرف مقلقا للدول وللمجتمعات الإنسانية، ومصادما للعلاقات الإنسانية القائمة على السلم والتعاون، وأصبح ظاهرة عالمية مقلقة لكثير من الدول، وهنالك جهات كثيرة إهتمت بالتطرف؛ منها علماء النفس وعلماء الاجتماع، وعلماء السياسة وعلماء الدين؛ فضلا عن الأجهزة الحكومية الأمنية والاعلامية والاقتصادية، وغيرها،وكل جهة ترجع أسباب التطرف للعوامل التي تدخل في مجال إهتمامها. ويمكن تلخيص هذه الأسباب في الآتي:

المؤتمر الدولي: الإسلام في أفريقيا – ومواجهة التطرف والارهاب

أولا: أسباب تربوية؛ تتمثل في الحرمان من رعاية الأبوين أوكلاهما في سن مبكرة، والحرمان الاجتماعي، والتعرض لصدمة نفسية شديدة فاجعة في الطفولة، والتربية القائمة على القسوة والضرب والتعامل الفظ مع الأطفال؛ هذا النوع من التربية يلقي بظلاله على حياة الأطفال، ويستمر معهم في كل مراحل العمر، ومرحلة الشباب هي مرحلة التنفيس عن الكبت والقهر والحرمان والمعاناة التي واجهت المرء في مرحلة الطفولة. فإن لم يتلقوا تدريبا على التحكم والضبط للنزعات النفسية، فإنهم يعجزون عن مقاومة الرغبات النفسية الشهوانية، ولايستطيعون التحكم في النوازع والانفعالات السلبية، وضبطها فتدفعهم هذه العوامل إلى التطرف[18]

المؤتمر الدولي: الإسلام في أفريقيا – ومواجهة التطرف والارهاب

ثانيا: أسباب نفسية: تتمثل في الاضطراب العصابي؛ كالقلق والاكتئاب، واضطراب الشخصية، والاضطراب الذهاني؛ كالاصابة بالفصام أوالهوس، أو الاضطرابات الضلالية؛ التي تجعل المصاب يعيش في هواجس تقنعه بأنه ليس شخصا عاديا، بل له دور كبير يقوم به لتغيير مجرى الحياة! ويجد الواقع مكذبا لاعتقاده وصادما له.وهنالك الدوافع النفسية المتأصلة في النفس البشرية، فضلا عن ضعف الأنا العليا(النفس اللوامة أوالعقل والضمير) وسيطرة الذات الدنيا (الهوى والنفس الأمارة بالسوء) على الشخصية الإنسانية، وتضخيم الأنا العليا بسبب الشعور المتواصل بوخز الضمير، وهذا من الحيل النفسية الدفاعية التي يلجأ إليها الشخص لتطهير ذاته والتكفير عن تقصيره تجاه نفسه أومعتقده الديني أومجتمعه؛ وغالبا مايقترن ذلك بالخجل والاشمئزاز من النفس والاكتئاب، ويبلغ في مرضى الوسواس والاكتئاب النفسي حدا من القسوة والخطورة مايجعل الحياة جحيما من العذاب وعبئا لايطاق[19] وهذا مايفسر لنا القسوة التي يتعامل بها المتطرفون مع أنفسهم ومع الناس، فتفجير الذات طلبا للاستشهاد، وقطع الروس، وحرق الأسرى وهم أحياء؛ ممارسات تنم عن دواخل مريضة ونفوس مضطربة أدت إلى انحراف في الفكر وشذوذ في المفاهيم، مع أنهم لو اتبعوا هدي القرآن منذ البداية لما وصلوا لهذه الحال، قال تعالى: ” وَنَفْسٍ وَمَا  سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا”[الشمس:7-10] وتزكية النفس لاتكون بالانتقام منها وإنما بالتوبة والإكثار من عمل الصالحات.قال تعالى: ” وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ”[هود:114]

المؤتمر الدولي: الإسلام في أفريقيا – ومواجهة التطرف والارهاب

ثالثا: أسباب اجتماعية: كثير من الناس يقارنون بين حالهم وحال الآخرين، فينظرون إلى الفوارق الإجتماعية من اختلاف الأصول العرقية، والتباين الثقافي والتفاوت في أساليب المعيشة؛ فلا يرضون بقسمتهم ويسيطر عليهم الإحساس بالدونية؛ فيتطرفون في مواقفهم إنطلاقا من هذا الشعور الخاطئ، ويقومون بممارسات غير طبيعية لتغطية الاحساس بالنقص، وقد لعبت التكنولوجيا الحديثة في تعزيز الشعور بالفوارق عن طريق ماتنشره وسائل الإعلام من أساليب حياة ومعيشة في الدول المتقدمة؛ مقارنة بما تعيشه دول العالم الثالث؛ فيتصاعد الغضب وعدم الرضا بالواقع والسعي للانتقام، وهو عامل مهم في انتشار التطرف في عالم اليوم. وتدخل الأسباب الإقتصادية في هذا المجال؛ فالفقر والبطالة وعدم القدرة على تلبية الحاجات الضرورية عوامل تساعد على انتشار التطرف والرغبة في الانتقام.

رابعا: أسباب فكرية: معظم تصرفات الإنسان نابعة من قناعاته الفكرية، التي تشكلها البيئة التي يعيش فيها؛ وفي عالمنا الإسلامي فإن عوامل التطرف الفكرية متوفرة بشدة؛ فالانقسامات الفكرية بين التيارات الإسلامية من جهة، وبينها وبين التيارات العلمانية واللبرالية والقومية من جهة أخرى؛ أدت إلى استقطاب حاد، ضاعت معه الموضوعية والسماحة والمرونة في التعامل مع الآخر، مضافا إلى ذلك التشويه المتعمد لصورة الإسلام والمسلمين من قبل دوائر في الغرب حيث يتم اختزال الإسلام في ممارسات بعض العناصر المغالية ويُغَضّ الطرف عن تاريخ المسلمين الناصع بل يتعمدون تشويهه مما يدفع الشباب المتحمسين للأعمال المتطرفة ردا على هذا العدوان الذي يستهدف هويتهم وتاريخهم ومعتقداتهم.

المؤتمر الدولي: الإسلام في أفريقيا – ومواجهة التطرف والارهاب

المحور الثاني: التطرف الديني آثاره ومخاطره

التطرف الديني من أخطر أنواع التطرف؛ لأن صاحبه يستند إلى عقيدة، ويؤمن أن مايقوم به أمرمشروع، ينتصر فيه لعقيدته ويؤجر عليه يوم القيامة، والحروب الدينية التي وقعت بين الطوائف داخل الملة الواحدة؛ أو بين أتباع الأديان كانت من أشرس الحروب وأفظعها بشاعة؛ والصراع بين الطوائف المسيحية، وبين اليهود والمسيحيين، والحروب الصليبية التي مارسها الغرب ضد المسلمين، والحروب بين الطوائف الإسلامية شاهدة على ذلك[20]

إن الآثار التي يخلفها التطرف على المجتمع والدول في كل مجالات الحياة خطيرة ومدمرة، ويمكن النظر إليها من خلال الآتي:

المؤتمر الدولي: الإسلام في أفريقيا – ومواجهة التطرف والارهاب

أولا: الآثار الاقتصادية: لاشك أن الإقتصاد يعتبر عصب الحياة، وعامل مهم في رُقِيّ المجتمعات، وقد أنعم الله سبحانه وتعالى على الإنسان بخيرات كثيرة وحثه على السعي لطلب الرزق حتى يتمكن من العيش في الدنيا بكرامة ويحقق الوظيفة التي خلق من أجلها. قال تعالى:”هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ”[الملك:15] وربط الله بين الأمن وتوفير الطعام في إشارة واضحة إلى أهمية الأمن في استقرار الحياة والهناء بالعيش الكريم؛قال تعالى:” فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ”[قريش:3-] ويزدهر الإقتصاد في ظل الأمن والاستقرار وبسط العدل، والتكافل بين أفراد المجتمع، قال تعالى:” وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ”[الأعراف:96]. فالإيمان والتقوى من لوازم العدل والاستقرار، بدليل أنه ذكر في آية أخرى أن الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم سيتحقق لهم الأمن والهدى. فالأمن ثمرة من ثمار العدل، والتطرف يتناقض مع العدل، ولذلك فإن للتطرف أثر كبير على الإقتصاد وعناصر إزدهاره، ومن تلك الآثار: توجيه كثير من الأموال للتصدي للنشاط العسكري؛ فالتطرف لايقف عند القناعات والاعتقادات وإنما يتجاوز ذلك إلى السلوك والفعل ومن نتائجه الارهاب والعنف الموجه ضد المدنيين والأبرياء والمؤسسات العامة والخاصة؛ مما يوجب على الدولة التصدي له ومواجهته بكافة الوسائل وأبرزها المواجهة الأمنية، وهذه المواجهة تتطلب انفاقا كبيرا على الأجهزة الأمنية، تدريبا وتسليحا وحوافزا، مما يؤثر على موارد الدولة واقتصادياتها.

ومن الآثار:توقف الأعمال الإقتصادية الزراعية والصناعية والتجارية؛ فالنشاط الاقتصادي يحتاج إلى بيئة آمنة وحياة مستقرة ومطمئنة، وفي ظل العمليات الإرهابية التي يقوم بها المتطرفون تكون الأولوية للمحافظة على حياة الناس، وعليه فإن النشاط الزراعي والصناعي والإقتصادي؛ سيتأثر في البلدان التي تتعرض للعنف والعمليات الإرهابية، بل ربما يتوقف تماما عندما يتوسع العنف كما وكيفا. و تخريب المنشآت والممتلكات العامة والخاصة؛ ومن آثار التطرف التخريب الذي يستهدف المؤسسات بالتفجير والتدمير، فضلا عن إحجام الزوار والسياح، وعزوف الاستثمار الأجنبي.و هروب رأس المال الوطني .

المؤتمر الدولي: الإسلام في أفريقيا – ومواجهة التطرف والارهاب

ثانيا: الآثار الدينية: يؤدي التطرف لفساد العقيدة؛ فكما أن التطرف انحراف في الفكر؛ فإنه يؤدي لفساد العقيدة، بتبنيه لمفاهيم تتصادم مع العقيدة الصحيحة، حيث أن المتطرف يتدخل في نوايا الناس وعقائدهم، وهو حق لله سبحانه وتعالى هو الذي يفصل فيه يوم القيامة، كذلك يؤدي التطرف إلى إنحراف في الفكر، كما فعل الخوارج قديما وكما يفعل الداعشيون وأمثالهم حديثا، ومن آثار التطرف الخطيرة؛ إزهاق النفس الإنسانية بإسم الدين! والله سبحانه وتعالى حرم قتل النفس الإنسانية بدون وجه حق، قال تعالى: “ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ” [الأنعام:151] ومن الآثار أيضا: تشويه صورة الدين بممارسات يستنكرها العقل والوجدان السليم، فقتل الأطفال، وتفجير المؤسسات، وتكفير المؤمنين بسبب اجتهادهم، والتشدد في الدين؛ كلها أفعال تؤدي إلى تشويه الدين والتنفيرمنه. ومن آثار التطرف أنه يؤدى إلى تَصَدُّر قادة جهال يتحدثون باسم الإسلام اعتبروا ممثلين للمسلمين! وتراجع دور العلماء الربانيين الذي أمر الله بالرجوع إليهم، قال تعالى:” وَمَا  أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ  لاَ  تَعْلَمُونَ”[الأنبياء:7]

ثالثا: الآثار السياسية: التطرف يؤدي إلى عدم الاستقرار وزعزعة نظم الحكم،بتبنيه لأفكار موغلة في التعصب، وسلوك مفرط في العنف تجاه الشرائح الوطنية المخالفة لأصحاب النزعة المتطرفة في عقائدهم وأفكارهم، والتطرف من شأنه أن يؤدي إلى تراجع الفكر السياسي الراشد، ليحل محله الفكر الإقصائي، والتطرف يؤدي إلى حدوث انقسامات وطنية بين مكونات المجتمع،

المؤتمر الدولي: الإسلام في أفريقيا – ومواجهة التطرف والارهاب

مما يفتح الباب للتدخلات الأجنبية السالبة، وكلها آثار تضر بالسياسة الوطنية وتشوهها.

رابعا الآثار الثقافية: من الآثار السالبة للتطرف انتشار ثقافة العنف والاقصاء، فالتطرف بما يطرحه من أفكار ورؤى ينشر ثقافة العنف والاقصاء لأنه لامكان للتسامح والرفق في سلوك ومواقف المتطرفين، وتقافة العنف تؤدي إلى زعزعة المجتمعات وإثارة الفتنة فيها. كذلك فإن التطرق يقتل روح الابتكار وفي ظله يتراجع الابداع الثقافي، فيصاب المجتمع بالتبلد والجمود. كما يؤدي التطرف إلى تراجع ثقافة الحوار وقبول الآخر؛ لتحل محلها ثقافة الاستقطاب والتعصب الفكري والسلوكي؛ وكلها آثار تضر بثقافة المجتمع وتحيله من مجتمع التآخي والتآلف والتواصل إلى مجتمع التدابر والتنافر والتقاطع.

المحور الثالث: التطرف الديني تجفيف منابعه وطرق علاجه

التطرف انحراف في الفكر، وشذوذ في المواقف؛ ينشأ من العوامل التربوية والنفسية والاجتماعية المذكورة سلفا؛ وتغذيه عوامل خارجية؛ سياسية واقتصادية واجتماعية، وعليه فإن تجفيف منابعه يكون، بمعالجة أسبابه ومغذياته، وذلك على النحو التالي:

أولا: إزالة الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تغذيه. عن النعمان بن بشر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”[21] إن التخفيف من حدة الفقر، وإعلاء قيم التكافل والتعاون والتراحم، ومعالجة الأخطاء السياسية والاجتماعية، وإزالة عوامل الإحباط؛ من شأنها أن تخفف من النزعة المتطرفة عند الشباب.

ثانيا: إدارة حوار مع حملة الفكر المتطرف لزحزحتهم نحو الرشد والاستقامة.إن الأفكار لاتواجه بالاجراءات الأمنية وحدها وإنما تواجه بالفكر الواعي؛ وعليه فلابد من معرفة مداخل التطرف وأسبابه حتى يتم تفنيدها بالحجة والدليل.

ثالثا: تصحيح المفاهيم بنشر الفكرالصحيح، والمنهج الوسطي؛ الذي يشكل حصانة ضد التطرف.قال صلى الله عليه وسلم: ” ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم”[22]

رابعا: سد المنافذ التي تفتح الباب للتدخل الأجنبي باعتباره مغذيا للتطرف. إن من أهم أسباب التدخلات الأجنبية في هذا العصر؛ انتهاكات حقوق الإنسان التي تمارسها الدول ضد شعبها، والجرائم الموجه ضد الانسانية، والاضطهاد الديني، والحروب الأهلية؛ وغيرها من الممارسات التي تخل بالأمن والسلم الدوليين.

خامسا: تقوية مسيرة الحوار والتقريب بين المذاهب والمناهج والجماعات المسلمة، وذلك التزاماً بالآتي:

  • تبادل الوُدّ، وتفعيل أوجه التعاون بين علماء الأمة الإسلامية من سنة وشيعة، ودفن كل مظاهر التوتر والخلاف والتعصب المذهبي.
  • منع نشر أو طبع كل الكتب التي تسيء لأتباع المذهب الآخر ، وعدم السماح بنشر المحاضرات والأحاديث التي تمس أوضاع الخلاف.
  • استنكار كل محاولات التضليل والتكفير التي توجه لبعض أتباع المذاهب، لمنع إثارة الفتن، وتخطئة الكاتبين لهذا اللون من التأليف.
  • التشجيع في مجال المقارنة العقدية والفقهية، ولاسيما في صعيد الدراسات الجامعية التخصصية على منهج بيان آراء الآخرين بموضوعيةمجردة، واحترام وتقدير لها، وإشاعة روح الحوار والنقد العلمي من غير تشنيع ولاتجريح ولاهجوم.
  • إقامة أنشطة ثقافية يشترك فيها علماء يمثلون كل المذاهب الإسلامين ويحضرها ناشطون منتمون لكافة المذاهب لتضيق الشقة والتعرف على المشتركات.
  • تفويض أمر الحساب لله سبحانه وتعالى في الأمور المختلف فيها.
  • الالتزام بميثاق شرف يمنع نشر الأفكار التي تدعو للانتقال من مذهب إلى مذهب، تحصينا للمجتمع من الاستقطاب وإثارة الفتنة.[23]

الخاتمة

التوصيات:

أولا: التطرف في العالم الثالث؛ تعبير عن الرفض على الأوضاع القائمة في كل مظاهرها السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ المطلوب إصلاح سياسي؛ يكفل الحرية والكرامة الإنسانية، ويحقق الشورى والديمقراطية في الاختيار، ويضمن التداول السلمي للسلطة. وإصلاح إقتصادي، يحقق العدالة والتكافل والتنمية المستدامة، وإصلاح اجتماعي، يرسخ القيم الإنسانية كالمساواة والتعارف والتراحم.

ثانيا: دراسة علمية لظاهرة التطرف تحدد أسبابها ومغذياتها بدقة، وذلك بالقيام بدراسة مسحية تستهدف شريحة الشباب باختلاف مستوياتهم التعليمية، والاجتماعية والاقتصادية؛ لمعرفة العوامل الجاذبة في التنظيمات المتطرفة.

ثالثا: العمل على نشر ثقافة الوسطية وتحويلها إلى برامج تخاطب حاجات الشباب ومتطلباتهم؛ ليجدوا إشباعا لحاجاتهم داخل دينهم، وإجابة مقنعة لتساؤلاتهم في منهج الوسطية.

هذا وبالله التوفيق.


[1]رواه أحمد

[2]موسوعة المفاهيم الإسلامية، الإصدار الأول، إصدار المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – جمهورية مصرالعربية 1421هـ – 2000م ص152

[3] أ. د . عبدالصبور مرزوق، السابق ص 152

[4] موسوعة المفاهيم الإسلامية، الإصدار الأول، إصدار المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – جمهورية مصرالعربية 1421هـ – 2000م ص412

[5]

[6] (التطرف في الدين، دراسة شرعية ــ إعداد: د. محمد بن عبد الرزاق، بحث مقدم للمؤتمر العالمي عن موقف الإسلام من الإرهاب 2004م

[7] مدارك السالكين /496

[8] رواه أبوعقيل والبيهقي بسند ضعيف ولكن معناه صحيح

[9] اعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن قيم الجوزية، تحقيق وتعليق عصام الدين الصبابطي،المجلد الأول ص14 دار الحديث – القاهرة ، سنة الطبع 1435هـ 2004م

[10] المرجع السابق نفس الصفحة

[11] رواه البخاري

[12] رواه أبودود

[13] رواه الدارقطني وحسنه النووي في الأربعين

[14] عوامل السعة والمرونة في الشريعة الإسلامية، دكتور يوسف القرضاوي، ص9 الطبعة الرابعة 1425هـ 2004م الطبعة الثانية لمكتبة وهبة ، القاهرة ، وأيضا راجع ، مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية للقرضاوي ص152 الطبعة الخامسة، 142هـ 2005م مكتبة وهبة، القاهرة

[15] رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة.

[16] أخرجه أحمد والبخاري وابن حبان والحاكم

[17] أ. د. وهبة الزحيلي، قضايا الفقه والفكر المعاصر، الجزء الثاني ص495، دار الفكر – دمشق الطبعة الأولى 1429هـ 2008م

[18] راجع د أسماء بنت عبدالعزيز الحسيني، أسباب الإرهاب والعنف والتطرف –  دراسة تحليلية ، بحث قدم للمؤتمر العالمي بعنوان موقف الإسلام من الإرهاب الذي نظمته جامعة محمد بن سعود الإسلامية

[19] المرجع السابق

[20]مراجعة الكتاب القيم للدكتور راغب السرجاني بعنوان المشترك الإنساني .

[21] أخرجه أحمد ومسلم

[22] أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة

[23] راجع قضايا الفقه والفكر المعاصر للدكتور وهبة الزحيلي ، الجزء الثاني الصفحات 507-  516

المؤتمر الدولي: الإسلام في أفريقيا – ومواجهة التطرف والارهاب

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى